بدؤا حكمهم بالظلم وبالظلم سينتهوا:


بدؤا حكمهم بالظلم وبالظلم سينتهوا:
(كتاب شرقا عبر الجسر سنوات الخوف والهوان في السودان):

نعود إلى تلك الليلة، من نوفمبر 1989 م .. وبدايتها عصر في منزل المرحوم ( مجدي محجوب محمد أحمد ). في حوالي الساعة الرابعة والنصف عصراً، وبعد تناوله طعام الغداء مع اسرته، نال قسطاً قليلاً من الراحة، ارتدى ملابس الرياضة، وحمل مضرب الأسكواش، ونزل من غرفته متجهاً إلى حديقة المنزل حيث سيارته .. استعداداً للذهاب إلى النادي العربي الذي يقع على مبعدة من منزلهم بعدة شوارع تجاه طريق المطار .. لحقت به والدته وشقيقته وإحدى القريبات من نساء الأسرة، طالبات منه أن يوصلهن إلى ( عزاء ) ، بمنزل إحدى القريبات بإمتداد العمارات، شارع(21) ، على أن يعود لإرجاعهن عند مغيب الشمس .. امتثل كعادته للأمر من والدته، وقام بإجراء الواجب نحوهن، وسار لمقر النادي لممارسة هوايته المحببه في هذه اللعبة مع بعض الأصدقاء، وهو لا يدري أن شارع منزلهم، ومنزلهم يضاً وحتى خروجه، كان خاضعا لمراقبة مشدده من أجهزة الأمن منذ الصباح الباكر، وأن لعبة ( الروليت ) القاتله التي يديرها النظام وأوكل امرها للعقيد ( صلاح الدين محمد أحمد كرار ) ، عضو مجلس الثورة و بعضاً من مساعديه قد وقع اختيارها عليه .. قضى مجدي فترة العصر لعباً وركضاً في الملعب مع شلة من الأصدقاء، وكان مرحاً كعادته ونشطاً . عند المغيب وقبله بقليل ودمعه اصدقائه بنفس الروح واتجه إلى سيارته ومن ثم إلى منزله ليغتسل من آثار اللعب ويؤدي فريضة المغرب، ويسارع بعدها إلى والدته وقريباته بشارع (21) العمارات لإرجاعهن إلى المنزل كما وعد .سمع، وهو يستعد للخروج من باب المنزل الداخلي إلى الباب الرئيسي - طرقاً ً عنيفا على الباب الداخلي، وصوت أقدام تركض في ممر الحديقة الأمامية، وفجأة فُتح الباب بعنف، وأقتحم المنزل عدد من الشبان يرتدون ملابس إعتيادية، ولكنهم يحملون اسلحة خفيفة في ايديهم !!. صاح أحدهم : "أنت مجدي محجوب؟ .." فأجابه بهدوء رغم وقع المفاجأة والدهشة : " نعم ".. فرد نفس الشخص الذي خاطبه أولاً : " نريد أن نفتش المنزل "!. وقبل أن يفتشوا كان لابد أن يظهروا أمر بالتفتيش من أي سلطة!؟ ولكنهم لم يفعلوا، وبدأوا في التفتيش بطريقتهم المعهودة، بينما أحاط بكتفيه إثنان منهم .
نعود إلى تلك الليلة، من نوفمبر 1989 م .. وبدايتها عصر في منزل المرحوم ( مجدي محجوب محمد أحمد ). في حوالي الساعة الرابعة والنصف عصراً، وبعد تناوله طعام الغداء مع اسرته، نال قسطاً قليلاً من الراحة، ارتدى ملابس الرياضة، وحمل مضرب الأسكواش، ونزل من غرفته متجهاً إلى حديقة المنزل حيث سيارته .. استعداداً للذهاب إلى النادي العربي الذي يقع على مبعدة من منزلهم بعدة شوارع تجاه طريق المطار .. لحقت به والدته وشقيقته وإحدى القريبات من نساء الأسرة، طالبات منه أن يوصلهن إلى ( عزاء ) ، بمنزل إحدى القريبات بإمتداد العمارات، شارع(21) ، على أن يعود لإرجاعهن عند مغيب الشمس .. امتثل كعادته للأمر من والدته، وقام بإجراء الواجب نحوهن، وسار لمقر النادي لممارسة هوايته المحببه في هذه اللعبة مع بعض الأصدقاء، وهو لا يدري أن شارع منزلهم، ومنزلهم يضاً وحتى خروجه، كان خاضعا لمراقبة مشدده من أجهزة الأمن منذ الصباح الباكر، وأن لعبة ( الروليت ) القاتله التي يديرها النظام وأوكل امرها للعقيد ( صلاح الدين محمد أحمد كرار ) ، عضو مجلس الثورة و بعضاً من مساعديه قد وقع اختيارها عليه .. قضى مجدي فترة العصر لعباً وركضاً في الملعب مع شلة من الأصدقاء، وكان مرحاً كعادته ونشطاً . عند المغيب وقبله بقليل ودمعه اصدقائه بنفس الروح واتجه إلى سيارته ومن ثم إلى منزله ليغتسل من آثار اللعب ويؤدي فريضة المغرب، ويسارع بعدها إلى والدته وقريباته بشارع (21) العمارات لإرجاعهن إلى المنزل كما وعد .سمع، وهو يستعد للخروج من باب المنزل الداخلي إلى الباب الرئيسي - طرقاً ً عنيفا على الباب الداخلي، وصوت أقدام تركض في ممر الحديقة الأمامية، وفجأة فُتح الباب بعنف، وأقتحم المنزل عدد من الشبان يرتدون ملابس إعتيادية، ولكنهم يحملون اسلحة خفيفة في ايديهم !!. صاح أحدهم : "أنت مجدي محجوب؟ .." فأجابه بهدوء رغم وقع المفاجأة والدهشة : " نعم ".. فرد نفس الشخص الذي خاطبه أولاً : " نريد أن نفتش المنزل "!. وقبل أن يفتشوا كان لابد أن يظهروا أمر بالتفتيش من أي سلطة!؟ ولكنهم لم يفعلوا، وبدأوا في التفتيش بطريقتهم المعهودة، بينما أحاط بكتفيه إثنان منهم .
التفت إلى أقربهم طالباً منه تفسير لما يحدث، فرد عليه قا ئلاً :إن معلوماته تقول أنه تاجر عملة . إبتسم رغم سخافة الموقف . خرج أحدهم من غرفته وهو يحمل مبلغاً من المال ولكنه بالعملة المحلية السودانية واتجه نحوه فارد يده بحزمة المال وقال بغضب - يجيدونه في مثل هذه المواقف " ده شنو ده ؟ " و أيضاً رغم سخافة السؤال وسائله .. أجاب بهدوء .. بأنها فلوس، وانها مصاريف المنزل ( كانت حوالى ثمانين ألفاً من الجنيهات السودانية .. وهو مبلغ محترم جد اًفي تلك الأيام ). تطاير الشرر من الأعين، والغيظ المكتوم، وواصلت المجموعة تفتيشها للمنزل بطرقهم المعهودة، التي تجعل الأشياء عاليها سافلها .. بعد فترة ندت صيحة إنتصار من فم أحدهم، وهو ينظر في جدار الصالة الداخلي وكان مصنوعاً من الخشب الجيد مما ينم عن ذوق وثراء أصحاب المنزل. صاح رجل الأمن بعد أن بدت فتحه صغيره، ظنها للوهلة الأولى انها لباب خاص، وبالتدقيق النظري عرف انها فتحه لمساحة صغيرة في أسفل جدار الصالة . عاد مسرعاً لقائد القوة المكلفة بالتفتيش وهمس في أذنه وذهب معه ليريه مكان الفتحة . تبادلا نظرات تنبئ عن قرب إنتصارهم على فريستهم .. تقدم نحو ( مجدي ) وحتى قبل أن يسألوه ( قال ): أن وراء جدار الصالة الخشبي، ولصق الجدار مباشرة توجد الخزانة الخاصة بأوراق وأموال المرحوم والده، وهي لم تفتح منذ وفاة والده قبل ثلاث سنوات، لأن الأموال التي بداخلها هي أموال ورثة، وحتى يعود بقية إخوته من خارج البلاد، ولم يتم حصرها حتى الآن .. فغر قائد القوة المكلفة فمه بعناء وغباء، رغم إقتناعه بحسن المنطق، ولكن تلك النظرات المتبادلة بين أفراده أعادته مرة أخرى إلى منطقه الحقيقي فصاح : " أين المفتاح؟ ".. رد ( مجدي ):" المفتاح كان مفقودا " وانا وجدته قبل أسبوع واحد ً تقريبا " ، وأتجه نحو طاولة في وسط الصالة ليخرجه من أحد الأدراج .. وفجأة كعادة التيار الكهربائي وتذبذبه في تلك الأيام السوداء، إنقطع التيار عن المنزل والمنطقة وإزدادت الحياة لحظتهاً ظلاماً على ( ظلام الظلم ).. وأخذت القوة المكلفة تتصايح طالبة فتح الأبوب والنوافذ، وإحضار شمعة، وإحضار مفتاح الخزانة .. و ( مجدي ) وسطهم بهدوئه المعهود ولانه صاحب المنزل ويعرف أماكن الأشياء بداره، حتى في أحلك ساعات الظلام .
أحضر مفتاح الخزانة من مكانه، وعدد من الشموع، وعلبة ثقاب صغيرة . أشعل الشموع
وثبتها على أطراف الصالة، وسرعان ما أضاءت المكان نوعاً ما .. أدخل المفتاح في خزانة والده وبعد عدة محاولات لم تفتح، إذ أن المفتاح علاه الصدأ كل هذه الثلاث سنوات لعدم الإستعمال وكانوا هم شهودًا على ذلك، وطلب من أحدهم أن يحضر ً زيتا من عربته التي بالخارج، وسارع هذا ( الأحدهم ). وأحضر علبة الزيت وصبّ ( مجدي ) قليلاً من الزيت على المفتاح .. وبعد عدة محاولات قليلة فتحت الخزنة، وتطلعوا ينظرون إليها بنهم، وشغف إنتصار، ولحظتها حتى ( مجدي ) لم يكن يعرف ما بداخلها، ولا أخوته ولا حتى والدته لأن الجميع متفقون على عدم فتحها لحين عودة بقية ألأشقاء من الخارج ..
لكنها فتحت في تلك الليلة الباردة .. والحالكة السواد .
*****
مدّّّّ قائد القوة يده داخل الخزانة، بعد أن شددت الرقابة اللصيقة على ( مجدي ) ، أخرج
أور اقاً بها معاملات تجارية، نظر فيها قليلاً وألقاها بالداخل مسرعاً، وبدأ في إخراج الأموال التي بداخل الخزانة وتكويمها على الأرض . وعلى ضوء الشموع الذي يتراقص ويلقي بظلال كئيبة
الغنائم :-
19
على المكان . بدأ أحد أفراد القوة في حصر
(115) ألف دولار أمريكي .
(4) ألف ريال سعودي .
(2) ألف جنيه مصري .
(11) ألف بـُر أثيوبي .
(750)ألف جنيه سوداني .

أمر قائد القوة بإحضار (جوال ) ، وتم (حشر ) الأموال بداخله .. حمله أحدهم على ظهره، بينما قاد اثنان منهم ( مجدي ) كل من يد . كان القائد في الأمام، وإثنان آخران يسيران في الخلف .. القوة تحمل المال والسلاح، وأما مجدي لا يحمل إلا إيمانه بربه وإستسلامه لقدره ومصيره .. إنطلقت السيارات إلى شارع (1) بحي العمارات . توقف الموكب ( الظافر ) أمام مركز الشرطة بذلك الشارع
الساعة تقترب من التاسعة مساء و ( مجدي ) لم يحضر !؟ ليست هذه من عاداته ! ، وقلب الأم دليلها .. لابد أن هناك ً شيئاً!! ). همست الأم وأضطرب قلبها، وطلبت من الإبنة وإحدى القريبات ضرورة الرجوع إلى المنزل . ركبن عربة تاكسي من شارع (21)بحي العمارات مكان العزاء إلى منزلهم في ذلك الحي الهادئ شرق منطقة الخرطوم (.2)
( كان ) زوج إحدى بناتها وجارهم وصديقهم السيد عبدالغني غندور يقفان أمام باب المنزل الخارجي، يتهامسان . نزلت الأم مسرعة تجاههما .. ماذا هناك !؟ أين مجدي .. ؟ أخبرها أحدهما بألم أن رجال الأمن حضروا وأخذوه معهم، بعد أن فتشوا المنزل ووجدوا عنده دولارات !!. وكانت ليلة لم يطرف فيها جفن ولم تغمض فيها عين، خاصة بعد أن أذاع التليفزيون خبر القبض على ( مجدي ) في نفس الليلة .. حاول البعض تهدئة والدته بأن القضية تتولاها الشرطة في مركزها بشارع (1) ، وإنها إجراءات بسيطة وستظهر براءته(لم يكن الكثيرين يعرفون بعد أن الشرطة أصبحت جزءاً من لعبة الروليت القاتلة ).. ولكن والدته والكثير من المعارف كانوا في منتهى القلق . مّّّّر عليه نهار الجمعة التالي لليلة القبض مباشرة، مرّّّّ عليه بطيئاً، بعد أن أحضر له زوج شقيقته بعض الملابس، ليغير ملابسه . وفي صباح السبت، وحوالي الساعة العاشرة صباحاً، سمحوا له بزيارة منزله تحت حراسة مشددة، ليغسل جسده المنهك ويتناول بعض الطعام ويطمئن والدته وإخوته . وتم إرجاعه بعد ذلك مباشرة وأودع بحراسة مركز الشرطة مره أخرى

سريعاً جد .. وبعد إجراءات التحري تم تحويله إلى سجن كوبر الشهير . والأم وقلبها، وكأي أم منذ أن خلق الله الرحمة، صارت تتحرك في جميع الإتجاهات، وتطرق جميع الأبواب، حتى المستحيل منها من أجل إنقاذ إبنها ( مجدي ). لذلك تحرك الأخوة والأخوات، والأصدقاء والمعارف . وفي نهاية نفس الأسبوع ..الخميس - الإسبوع الثاني من نوفمبر 1989 م حضرت إلى منزل الأسرة بالخرطوم (2) سيارة بوكس من نوع تويوتا بها بعض رجال الأمن . نزل منها شخص يبدو انه مسئول يتبعه فرد آخر مسلّح وضغط على جرس الباب الداخلي . تجمع أفراد الأسرة حوله بسرعة البرق، لتوتر أعصابهم . وبعد تحية مقتضبة أخبرهم : بأن غد الجمعة، الساعة الثانية عشر ستتم محاكمة (مجدي ) بحديقة السيد علي الميرغني( وهي كائنة بشارع النيل، كانت قد تمت مصادرتها أيام الإنقلاب وهي تخص طائفة الختمية وزعيمها محمد عثمان الميرغني، وكان قد تم تحويل مبانيها إلى قاعات لمحاكم ما يسمى بأمن الثورة . أرجعت حا لياً بعد مصالحة هامشية، ). أخبره أحد افراد الأسرة، وهو يبدي الدهشة، بأن هذا الوقت هو وقت أداء صلاة الجمعة،وكيف سيتم الإتصال بمحامي للدفاع عن ( مجدي ).. وكعادتهم ابتسم هذا الشخص ونظر إليهم هازئاً، وهي نظرات يجيدها هؤلاء القوم وبإبتسامات كأنهم يولدون بها .. الغريب انها واضحة على السحنة وفيها أبلغ الكلام وتغني عن الشرح، وتتلقفها القلوب الواعية سر يعاً وتتفهمها جيداً.
وبدأت تحركات الأسرة للإتصال بالمحامي الذي سيدافع عنه، شكلاً، إذ أنه في مثل هذا النوع من المحاكم العسكرية ( محاكم أمن الثورة ) ، لا يحق لمحامي مخاطبة المحكمة مباشرة، بل عليه أن يتشاور مع المتهم ويلقنه الإجابات أو الأسئلة .. والمتهم هو الذي يخاطب المحكمة ! ؟ الكل في ذلك المنزل الكائن في الخرطوم (2) صار يركض ويلهث، علهم يجدون مخرجاً .. وينقذون ( مجدي )
يوم المحاكمة يقترب، والأنفاس لاهثة .. وقبلها بعدة أيام، وعند إنتشار خبر القبض على (مجدي) ،وصلت الأخبار إلى معظم ديار الهجرة والإغتراب، خاصة السودانيين منهم والذين كانوا حريصين على تتبع أخبار ( الحكم )! الجديد في بلادهم وسياسته، رغم أن رائحة إتجاههم السياسي بدأت في الإنتشار، ووصلت إليهم .. وسكنت حتى أعصابهم .. في مدينة ( القاهرة ) ، العاصمة المصرية، كان يعيش ممدوح ،أحد أشقاء ( مجدي ) ، بعد أن نقل بعض اعماله التجارية إليها عقب وفاة والدهم .. وكان يسكن معه في شقته صديقه المقرّّّّب، وصديق الأسرة (عادل ) مقدم أ . ح . بالقوات المسلحة السودانية، تمت إحالته للصالح العام بعد الإنقلاب بعدة أيام، مع الكثيرين غيرة من رفقاء السلاح، لأنه ليس منهم، ولجسارته الشديدة، وشجاعته التي اشتهر بها وسط أبناء دفعته، وتشهد أدغال الجنوب، وصراع الحرب الأهلية بثباته عند أحلك الظروف .. تمت الإحالة، وهي تعبير مخفف للفصل من الخدمة ( بدون إبداء الأسباب ) ، طال هذا الأسلوب الكثيرين في مختلف الدوائر الحكومية، والقوات النظامية، لكي تحل كوادر النظام الجديد مكان هؤلاء، وهي للحقيقة .. أعداد مهولة . إنتهز ( عادل ) الفرصة، وسافر للقاهرة بعد إحالته للصالح العام، للإستجمام والراحة قل يلاً والتفكير بمستقبله الجديد والتفاكر مع صديقه ( ممدوح ).. وفي ليلة القبض على ( مجدي ) ، والذي أذاع خبره التليفزيون الحكومي، أتى إلى الشقة بعض السودانيين الذين سمعوا الأخبار .. في نفس الليلة . تلقاها ( ممدوح ) بصمت وذهول .. سمعها منهم ( عادل ) بألم وامتعاض وسارع إلى التليفون وأتصل بالأسرة في الخرطوم (2) ليطمئن .. ؟ . على الجانب الآخر من الخط كانت ( مديحة ) إحدى الشقيقات ترد عليه، وفي محاولة منها لطمئنتهما اخبرنهما بأنه مريض بعض الشيئ .. ولكن القلق صار ينهش في العقول . تم الإتفاق سر يعاً بضرورة رجوع ( عادل ) فور للخرطوم بصحبة الأخ الآخر ( مندور ) الذي كان يسكن في أحدى ضواحي القاهرة بعد إخباره بما جرى، على أن يبقى ( ممدوح ) بالقاهرة، لأنه كان رجل ( سوق وإقتصاد ).. قوي، ويخشى عليه من لعبة ( روليت ) اللجنة الإقتصادية، والتي يديرها رئيس لجنتها التابعة لمجلس الثورة الجديد ( العقيد أ . ح .) صلاح الدين كرارومساعدوه، وعلى رأسهم رئيس لجنة متابعة قرارات اللجنة الإقتصادية !؟ ( العقيد أ . ح .) سيف الدين ميرغني

في سباق مع الزمن، فجر السبت كانا وبملابس السفر في نقطة شرطة شارع (1) ، بإمتداد
العمارات، وذلك بعد هبوط الطائرة القادمة من القاهرة بمطار الخرطوم فجراً . أحترم بعض رجال الشرطة رتبة ومكانة (عادل) العسكرية، بعد أن أبرز لهم بطاقة ضابط قوات مسلحة ( بالمعاش ) ، وأخرجوا لهما ( مجدي ) من زنزانته . قابل صديقه، وأخيه ( مندور ) رابط الجأش كعادته، وبالإستفسار علما منه فحوى القصة بكاملها، وأن إجراءات التحري تقول بأنه متهم بالإتجار بالعملة !.
طلب ( عادل ) من المتحري أن يسمح لهما بأخذه قليلاً إلى منزله ليطمئن والدته وإخوته وبقية أهله . سُمح لهما بذلك برفقة بعض الحراسة المشددة . أثناء الزيارة للمنزل نزل قليل من الهدوء على أفراد الأسرة جميعاً .. خاصة والدته، ولكن يبدو أنه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة، .. كما يقولون . بعد عدة أيام، وإجراءات الشرطة تطمئنهم، أن (مجدي) ليس هناك ما يؤخذ عليه، خاصة وأن المبالغ المذكورة وجدت داخل منزله، وفي خزانة المرحوم والده، وهي من ضمن ميراث العائلة .. تم القبض ايضاً، وبمسرحية نقلها التليفزيون الحكومي على الهواء مباشرة وفي مطار الخرطوم الدولي، على ( مساعد طيار ) بالخطوط الجوية السودانية هو (جرجس القس بسطس )بينما كان يحمل في حقيبته السفرية، وفي إحدى رحلات هذه الخطوط المتجهة إلى القاهرة، مبالغ مالية تفاصيلها :
(222.175)ألف ريال سعودي
(94.925)ألف دولار أمريكي
(800)شيك سياحي
(3.400)ألف جنيه مصري .
حضر فوراً لمطار الخرطوم الدولي ( العقيد أ . ح .) صلاح الدين كرار، ومساعدوه باللجنة الإقتصادية، التابعة لمجلس الثورة، وظهر على شاشات التليفزيون، يرغي ويزبد ويتوعد، حتى قبل التفكير في أي محاكمة، أو يصرح ولو ً تليفزيونيا بذلك .. بل أن بعض شهود عيان قالوا أنه لطمه على خده، وتم عمل مونتاج للشريط ولم تظهر اللطمة .. وعاد إلى سيارته وهو يفرك يديه مسرور لوقوع مثل هذا الصيد الثمين اً في شراك لعبة (الروليت) الإقتصادية .. السودانية !.. (الضحية) هذه المرة من السودانيين (الأقباط) ، والأموال تخص بعض أهله ، كما اثبتت التحقيقات، وكانوا يستعدون لنقل تجارتهم، أو جزء منها إلى خارج الحدود، خوفاً من حالة الفوضى التي كانت تعم كل أرجاء البلاد، وخوفاً أيضاً من الشعارات التي رُفعت في ذلك الوقت . شعر أفراد الأسرة وصديقهم ( عادل ) بالقلق، بعد أن تم نقل ( مجدي ) بسرعة من مركز شرطة شارع (1) بالعمارات، إلى جهاز الأمن، وبعدها إنضم إليه مساعد الطيار ( جرجس ) ، ونقلا يضاً من هناك إلى سجن كوبر العمومي، الذي كان مشرع الأبواب أيامها (ومايزال)! لتلقف المزيد من السياسيين، والمشتبه فيهم إقتصادياً،حسب قرارات اللجنة الإقتصادية، إضافة للمنتظرين فيه، والمحكومين في جرائم أخرى .
أصبحت المقابلة بالنسبة ( لمجدي ) صعبة بالنسبة لأفراد الأسرة، ولكن ( عادل ) وبحكم وظيفته السابقة، كان يجد الفرصة .. وبعلاقات خاصة في إيصال بعض الإحتياجات العادية إليه .
*****
" غد الجمعة، الساعة الثانية عشر ظهراً .. ستتم محاكمة ( مجدي ) ، في حديقة السيد علي الميرغني، بشارع النيل !". عبارة قالها رجل الأمن شفاهة لأفراد الأسرة المجتمعين ، أمام الباب الخارجي لمنزل الأسرة
بالخرطوم (2) ، وإنصرف ساخراً . ولكنها عبارة ظلت تتردد في آذانهم وقلوبهم وعقولهم طيلة تلك الأيام، اللاحقة والسابقة للأحداث، ويسمعونها حتى في نومهم .. لفظاعتها .. وغد المحكمة !!؟ .
ومنذ صباحها الباكر، تجمع الأهل، والأصدقاء، والمعارف أمام سور المحكمة بشارع النيل . استطاع البعض الدخول ألى حديقة المكان، وجلسوا تحت اشجارها .. حتى منتصف النهار، لم يحضر ( مجدي ) ، ولا اّّّّياً من حراسته . وانصرف بعض الأخوة، مع بعض الأهل والأقارب لتأدية صلاة (الجمعة) في أحد المساجد المجاورة للمنطقة، وعند عودتهم رأوا .. الرائد ( وقتها ) إبراهيم شمس الدين عضو مجلس الثورة، وأصغر ألأعضاء سناً، وحداثه، .. وحتى رتبة عسكرية، يساعد بعض الجنود في تنظيم كراسي قاعة المحكمة، ويصدر تعليماته بالعدد المسموح له بدخول قاعة المحاكمة .

حوالي العصر، وقف أمام البوابة الرئيسية للحديقة موكب مكون من ثلاث سيارات، الأولى سيارة من نوع ( لاندكروزر ) ، نزل منها الرائد ميرغني سليمان ، أحد ضباط سلاح الإشارة سابقاً و (ملحوق ) للأمن ( نُقل إلى أديس ابابا عاصمة اثيوبيا في عام 1990 م، بعد المحاكمات، ليعمل قنصلاً في السفارة السودانية !؟ ) ، وكان قائداً لتيم الحراسة المكلف وهم مدججين بالسلاح، والسيارة الثانية نزل منها ( مجدي ) ، ومتهم آخر يدعى علي بشير مريود ، كانا يرتديان الجلابيب السودانية المعروفة ويتبعهما بعض الحرس، أما السيارة الثالثة فكان بها طاقم الحرس . انتظم الموكب داخلاً من بوابة السور الرئيسية، وعبروا الحديقة إلى قاعة المحكمة مباشرة .
كانت والدة (مجدي) ، وإخوته .. و (عادل) بداخل القاعة التي اكتظت بجمهرة من الناس، رغم أن اليوم عطلة اسبوعية .. أناس حتى الأهل لا يعرفونهم، ولكن كان في نظرات البعض ًتعاطفا لا تخطئه عين .. خاصة نظرات بعض الجنود .. المباني داخل الحديقة مقسمة إلى عدة أجزاء . انعقدت محكمة (مجدي) في جزء منها، وفي الآخر محكمة المتهم (علي بشير المريود) ، والذي وُجد بحوزته، كما قيل ونُشر في صحف تلك الأيام : -
(37.350)ألف دولار أمريكي .. وألف ومئة دولار أخرى لوحدها .
محكمة (مجدي) أتخذت إسم المحكمة الخاصة رقم (1) ، و ( المريود ) المحكمة الخاصة رقم (2) ، ولكل قضاتها من العسكريين ، الذين يحاكمون ولأول مرة في تأريخهم العسكري مواطنين مدنيين .
(مجدي) داخل قاعة (محاكمته) يتبادل إبتسامات مع والدته، وإخوته، والأهل وبعض المعارف .. برغم أن أعصابهم جميعا كانت متوترة ومشدودة .
قائد المطبعة العسكرية (حالياً لواء بنفس المنطقة) ، والرائد (وقتها) حسن صالح بريمة ل
بسلاح الطيران (حالياً عقيد أ . ح .) ، أما ثالثهما النقيب مهندس يوسف آدم نورين ل
دخلت هيئة المحكمة إلى القاعة يتقدمهم : رئيسها المقدم (وقتها) عثمان خليفة
مهندس من القوات الجوية ( الأخير له قصة لاحقة، إذ تم طرده من القوات الجوية وجُرّد من رتبته العسكرية، وسجن لمدة ثلاث سنوات بسجن منطقة الجريف غرب، بتهمة إستلام المال المسروق، وقبض عليه مرة أخرى بعد إنتهاء محكوميته لإشتراكه في المحاولة الإنقلابية ضد النظام، والتي أدعى النظام قيامها بزعامة شيخهم السابق د . حسن عبدالله الترابي زعيم المؤتمر الشعبي ).
الجمعة الأخيرة من شهر نوفمبر 1989 م، بدأت إجراءات المحكمة العسكرية الخاصة رقم (1)
والمتهم ( مجدي محجوب محمد أحمد ).. والتهمة .. الإتجار في العملة الأجنبية (رغم التوضيح السابق عن كيف وجدت هذه العملة لدى الأسرة، ومن أين أخذها رجال الأمن؟ !).
حُرم محامي ( مجدي ) ، الاستاذ ( عبدالحليم الطاهر ) من مخاطبة المحكمة مباشرة، وهو أمر يتنافي مع طبيعة الأشياء، خصوصاً وأن الإتهام خطير، والعقوبة المتوقعة أخطر -رغم أن المحكمة سمحت في محاكمات سابقة أن يخاطبها المحامون مباشرة - ولكن محامي ( مجدي ) تم منعه، والمحاكمات السابقة هي :
(1)محاكمة المتهم والوزير السابق ( عثمان عمر )وكان وز ير اً للإسكان قبل للإنقلاب، وحُوكم بتهمة التصرف في أراضي الدولة بالبيع؟ !!!
(2) محاكمة الدكتور ( مجذوب الخليفة أحمد ) وكان حاكماً للإقليم الشمالي، واتهم ببيع لبن خُصص للإقليم لتوزيعه على المواطنين كإغاثة إبان كوارث السيول والفيضانات .

بدأت الإجراءات وقدم رجال الأمن قضيتهم ضد المتهم . قال أحدهم ويدعى (حسن حمد) أن
المعلومات أفادت أن (مجدي) لديه عملة أجنبية، ستتحرك (يتم نقلها) ، وقال آخر يدعى ( أزهري ) أن المعلومات تقول أن المتهم لديه عمله؟ !.. لم يرد في أقوال الإتهام أو في علمهم الشخصي أن المتهم قام أو يقوم، في أي وقت من الأوقات، بأي نوع من أنواع هذا النشاط، ولا حتى في معلوماتهم، بمعنى أنه لم تقل المعلومات صراحة أن المتهم يتاجر في العملة . إذا كان هناك شكّاً في الأقوال والقاعدة القانونية تقول : ( يفسر الشك د ئماً لصالح المتهم .).. وعلى الإتهام إثبات التهمة ببينة أفضل .. بعد مناقشات بين المحامي والمتهم، (كصديق)! ؟، وشهود الإتهام .. والمحكمة .. أتضح أن ( مجدي ) لم يضبط وهو يتاجر في العملة، بل أ ُخذت من منزله ..! ومن داخل خزانة المرحوم والده !!.. وهو لم يجمعها من برندات الأسواق أو المتاجر المختلفة، كما يفعل غيره .. كما لم يسمح له بإستدعاء محامي (التركة ) ، والذي سيشهد بأن الأموال التي والساعة تقترب من الرابعة بعد الظهر (غروب الشمس ). كاد رئيس المحكمة أن يقرأ الحكم الجاهز قبل إعطاء المتهم فرصة هل أن هناك أسباباً تدعو لتخفيف الحكم، وهي الطريقة المتبعة ً قانونا بأن يسأل القاضي المتهم مثل هذا السؤال؟ ! وعندما أحس بهذا الخطأ القانوني، بعد أن همس له أحد الأعضاء بذلك، أمر برفع الجلسة لمدة (5)دقائق .. للتداول في الحكم بين الأعضاء الثلاث؟ !!
كانت (5) دقائق حاسمة تمثل الفاصل بين العبث والحقيقة .. بين الحق والباطل . مرت
بطيئة كأنها دهر ، خيّم خلالها الصمت على الرؤوس .. وعادت هيئة المحكمة .. ومباشرة .. وفور جلوسهم قرأ رئيسها الحكم :-
" جاء في أسباب إدانة المحكمة للمتهم، أن شهود الإتهام أثبتوا أن المتهم يتاجر في العملة
الأجنبية، وذلك لما توفر لديهم من معلومات، وأنه تعرف على مفتاح الخزانة .. في الظلام، وبإقراره بحيازة هذا النقد الأجنبي، وبناء عليه حكمت المحكمة بإعدام المتهم مجدي محجوب محمد أحمد، شنقاً حتى الموت، ومصادرة المبالغ موضوع الإتهام، وإعادة مبلغ ال (750)ألف جنيه سوداني لشاهد الدفاع ( عادل أحمد محمد الحاج )..
ذهول .. وصمت مطبق، خيم على جميع من بالقاعة؟ ! وأنهمرت الدموع .. دموع رجال غالية .. وأم .. بدأ قلبها في التمزق وكبدها في التلاشي .. اخوة ألجمت المفاجأة ألسنتهم، .. و ( عادل ).. أنفعل وقاد قتالاً شرساً (مشادة كلامية) حماية لصديقه .. و (مجدي). المتهم وكعادته كان يهدئ من ثورة الجميع،
طالباً منهم بحرارة، أن يدعو الله له .. وأن يلزموا الصبر .. ويفوضوأ أمرهم إلى الله .
في نفس التوقيت .. كانت المحكمة الخاصة رقم (2) قد انتهت من إجراءاتها، وحكمت
على المتهم (علي بشير المريود).. بالإعدام ً شنقا حتى الموت؟
خرج الجميع، خارج قاعة المحكمة .. على شارع النيل، وحفيف الأشجاروأوراقها التي تتساقط على الشارع وتحدث صو تا كأنه الدموع .. دموع الطبيعة .. والنيل الأزرق .. هذا العملاق الأبدي يشاهد كل هذه الأحداث .. بصمته الرهيب .. والمحيّر . و ( مجدي ).. هذا الصامد .. في أحلك الظروف .. وبعد ليلة إلقاء القبض عليه بمنزله، تم إلقاء
القبض على مساعد الطيار، بالخطوط السودانية (جرجس ) ، نقل من مركز شرطة شارع (1) بحي العمارات إلى مبنى جهاز الأمن، وهناك ا ُجريت له تحقيقات من نوع فريد، ليلاً ونهار اً. لم يسمح له بتناول كفايته من الأكل، أو النوم، أو الإستحمام . رُحّل بعدها إلى سجن (كوبر ) قبل المحاكمة بسبعة أيام، حيث أ ُدخل في قسم المعتقلين السياسيين . كان عددهم حوالى (650)معتقلا سياسياً في الأقسام المختلفة .. أصدر مدير السجن بالإنابة، العميد سجون ( موسى الماحي ) أمر بأن يوضع مع مجموعة من المعتقلين السياسيين في القسم (ج ) ، منهم : الصحفي محجوب عثمان الوزير السابق أيام الرئيس نميري، والأمير نقدالله من قيادات حزب الأمة، والمهندس عقيد (م) صلاح إبراهيم أحمد ، والدكتور المرحوم خالد الكِّد ، والأستاذ المحامي مصطفى عبدالقادر ، والقاضي عبد القادر محمد أحمد ، والدكتور سمعان تادرس ،والدكتور سعيد نصر الدين ، والمقدم (م) عمر عبد العزيز وستة أفراد آخرين من الحرس الخاص للسيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء السابق قبل الإنقلاب !.. والقسم (ج) هذا .. به غرفتان فقط .
أتى ( مجدي ) بصحبة حرس من السجون .. إلى هذا القسم، يقوده (وكيل عريف) سجون
إسمه ( دومينكو ) . كان في حالة ضعف نوعا ما، ولكنه متماسك وواثق من نفسه وسأل مجموعة الحاضرين : (من أنتم؟) ، وطلب منهم أن يستحم ويغسل جسده المنهك .. رحب به الحاضرون،الذين كانت قد وصلتهم أخبار القبض عليه .. وعرّفوه بأنفسهم، وهدأت ثائرته قليلاً بعد أن تعرّف على أحد المعتقلين وهو المهندس عقيد (م) صلاح إبراهيم أحمد وهما من منطقة واحدة في شمال السودان (منطقة حلفا).. نال إستحماما هادئاً، واسترخت عضلاته المتوترة، إلاّ أن وجهه كان ينبئ عن هدوء مثير، ووضاءة لا تخطئها عين .. أحبوه جميعا لدماثة خلقه، ومشاركته لنفير طعامهم الذي كان يؤتى به من منزل أحدهم
بالتناوب، وكل يوم تعد أسرة أحد المعتقلين بالقسم (ج) وجبة دسمة، بدلاً عن طعام السجن (المعروف)..
وأخذ سهمه معهم في ذلك، وأحضرها إليهم (عادل) في المداومة اليومية معهم كعادته، صباحا .. ومساءا ًتمت المحاكمة في يوم (الجمعة ) ، كما ذكرنا آنفاً، وأحضروه إليهم هذه المره وهو محكوما عليه بالإعدام .. ووضع في زنزانة أخرى مع المحكومين بهذا الحكم .. كان بها الدكتور (مأمون يوسف)أخصائي أمراض النساء، في قضية (إضراب الأطباء الشهير ) ، وأضيف لهما ( علي بشير المريود ) والذي حوكم في نفس وقت وساعة محاكمة (مجدي ) ، بالمحكمة الخاصة رقم (2) ، ومساعدالطيار (جرجس) ، والطالب (اركانجلو داقاو ) من أبناء الجنوب، والذي تم ضبطه بمطار الخرطوم، وكان يستعد للإلتحاق بجامعة (ماكريري ) بدولة يوغندا، وهو يحمل معه مصاريف دراسته بالعملات الحرة، بعد أن باع جزء من أبقار أهله بالجنوب .. ومتهم آخر يدعى (هانئ وليم شكور )تم إستبدال حكم الإعدام ضده بمبلغ (30) مليون جنيه سوداني، لأن والدته ذكرت أنه وحيدها .. وتم دفع المبلغ .. وأطلق سراحه لاحقاً . وكان يسمح لهم جميعاً بزيارة معتقل السياسيين في قسمهم نهاراً، وتبادل الأحاديث معهم
الأيام تمر ببطء، والكل في إنتظار نتيجة الإستئناف الذي تقدم به المحامي الأستاذ (عبد الحليم الطاهر ) ، نيابة عن (مجدي).. تم تقديم الإستئناف للسيد رئيس القضاء (وقتها ) والرئيس الحالي !! للمحكمةالدستورية القاضي (جلال علي لطفي )ورغم ذلك كان الكل يركض في جميع الإتجاهات، بحثا عن مخرج أو بصيص أمل .. حتى بعض السفراء الأجانب استغربوا من قسوة هذا الحكم وكان يقود محاولاتهم السفير المرحوم (عبدالله السريّع ) سفير دولة الكويت، وسفير حتى السودانيين داخل بلادهم .. لما امتاز به من حسن الخُلق، وطيب المعشر، وعلاقات شتى مع قطاعات عريضة من مجتمع الخرطوم .
ما زالت الأيام تمر ببطء .. والدته تحركت مع مجموعة من الشقيقات، ونساء الأهل والمعارف علهن يحلن دون وصول حبل المشنقة إلى رقبة (مجدي). قابلن السيد رئيس القضاء بمنزله، علّه يطلب منهم تقديم إسترحاماً .. أو ينير الطريق أمامهن بصورة قانونية .. ولكن سيادته قال لهن جملة واحدة،أصابت الكثيرات منهم بالإحباط : " اخوته .. هم الذين تقدموا بالبلاغ ضده ". انتهت المقابلة وطُردن من المنزل .. حاول معه السيد محمد توفيق، والسيد داؤود عبداللطيف رجل الأعمال المعروف .. ولكن !.
حاولت (الأم ) عدة مرات مقابلة رئيس مجلس قيادة الثورة (الفريق) عمر البشير .. في أحداهاقابلها رجل متوسط العمر، به شبه منه، قال لها إنه إبن عم الرئيس، وطلب منها أن تحضر في صباح الغد مبكرةً، ليدخلها المنزل الرئاسي (الجديد) مع الرجل الذي يأتي باللبن يوم يا .. نفّذت نصيحته .. أتت في الصباح الباكر، وجدت الرجل الذي قال لها إنه أخبر (الرئيس) ، الذي يطلب منها الحضور بعد ستة أيام، لأنه مسافر .. إلى أين لا تدري؟ ولا إجابة للهفتها على إبنها، .. ستة أيام .. كثيرة جد .. خاصة وان حبل المشنقة صار يقترب، ويتأرجح .طرقت أبواب أصدقاء زوجها .. أحمد سليمان المحامي المعروف (أحد مفكري الإسلاميين، بعد أن كان عضو مشهورًا باللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني ، وأحد أعمدته).. عز الدين السيد رجل الإقتصاد المعروف .. عبد اللطيف دهب، سفير السودان الأسبق بالمملكة العربية السعودية .. ولكن لا شيئ !!
بعضهم حاول .. وبعضهم (غفر الله له)!..الساعات تتناقص وتركض نحو لحظة التنفيذ .. والأم زرعت العاصمة طولاً وعرضاً، تحاول وتحاول ..وتحاول مرة أخرى .. وتتصل .. عسى أن يكون هنالك بصيصاً من الأمل .. وصلتها معلومة مفادها أن (رئيس مجلس الثورة ) سيكون في (استاد الخرطوم) عصر اليوم، ليشهد حفلاً لتخريج دفعة جديدة من ضباط القوات المسلحة .. ذهبت وبناتها وبعض النسوة من الأقارب .. انتظرن أمام بوابة الخروج الرئيسية ..!.. ولكن ، كعادة حكام العالم الثالث، خرج موكب السيد (الرئيس) بسرعة لم تمكنها حتى من رؤيته، فضلاً عن الحديث معه، ولكنهن لحقن به .. وبسرعة يضا إلى (منزله) بالقيادة العامةللقوات المسلحة .. أحد الحرس أمام بوابة المنزل الضخمة .. سمح لها هي فقط بالدخول .. دخلت إلى صالة الإنتظار التي بها عدة كراسي
للجلوس، تهاوت على أحدها من الألم .. والغبن .. والقهر، ولكنها لم تكن تشعر بالتعب أو الجوع .. كانت زوجة الرئيس (الأولى) – ( إذ أنه تزوج مرة ثانية .. من زوجة زميله عضو مجلس الثورة العقيد -لاحقاً- إبراهيم شمس الدين، الذي أحترقت به طائرته العسكرية مع بعض قيادات القوات المسلحة .. في جنوب السودان )!..كانت زوجة ( الرئيس ) تتبادل الحديث مع إحدى ضيفاتها، وتصف لها روعة الإحتفال الذي كانت
قادمة منه مع زوجها .. جاءت والدة (الرئيس) وجلست بالقرب منها .. أخبرتها الأم بقصتها، وانها والدة (مجدي).. أبدتً تعاطفا معها، ونهضت وإتجهت إلى غرفة في نهاية الصالة، تفصلها ستارة من القماش الخفيف لا تمنع الرؤية بعد التدقيق بالنظر بالنسبة للجالسين بالصالة، خلفها كان يقف السيد (الرئيس ) مستعد للخروج .. وشاهدت الأم من مكانها طيف والدة الرئيس .. وهي تخاطب إبنها (الرئيس)..! وقليلاً ً من الوقت عادت لتقول لها : أن (الرئيس) خرج، وهو غير موجود ! ؟ .. نظرت الأم إليها بدهشه، لكنها صمتت ولم ترد عليها إلا بالقيام مسرعة لتواصل محاولاتها .. ولم تستمع الأخرى إليها .. وهي تدعو الله ..دعاء حار من قلب أم .. بدأ فعلاً في الإحتراق .. وكانت حرم (الرئيس) كل ذلك الوقت، تحكي لضيفتها عن ( روعة ) إحتفال، ضباط القوات المسلحة، في ذلك اليوم .الساعات تتراكض نحو النهاية ..و (الأم ) لم تفقد الأمل، هرولت (إن صح التعبير) ، نعم هرولت إلى سجن (كوبر ) لتملئ عينها من (مجدي ) ، وكان قلبها يحدثها - وقلب الأم د ئما دليلها - إن هؤلاء ( الناس ) ينوون شر بإبنها .. وإن الحكم ي سينفّذ !. لم تستطع مقابلته وطلب منها الضابط (المناوب ) بالسجن أن تحاول الإتصال بالسيد (زين العابدين محمد أحمد عبدالقادر) أحد رجالات (نميري ) الأقوياء، وأحد نجوم مجتمع الخرطوم وقتها .. فعلاً ذهبت هي وإبنتها .. وتعاطف الرجل معها بشدة، هو وزوجته، وركبا معه في سيارته وعند بوابة منزل (الرئيس ) بالقيادة العامة، إعترضهما الحرس .. عرّفهم بنفسه ولكنهم أجابوه بغلظة واضحة : "الرئيس .. غير موجود " ؟ !. أخبرهم بالقصة .. وأن والدة ( مجدي ) معه بالسيارة، ولم يتبق إلاّ ساعات لتنفيذ حكم الإعدام .. ولكنهم هذه المرة أشهروا مسدساتهم وهم يرددون : " الرئيس .. غير موجود "!.. لحظتها بكى هذا الرجل .. القوي، من القهر .. وأنسحب . رجعت (الأم ) إلى المنزل ومعها إبنتها، وكل الخرطوم في ذلك الوقت كانت بالمنزل، ولكن ..لعبة ( الروليت ).. كانت قد بدأت في الدوران .
*****
( عادل ).. تحرك في جميع الإتجاهات . لم يترك باباً إلاّ وطرقه آملاً في نجاة صديقه . كان يأتي يومياً .. في تمام الساعة السادسة والنصف صباحاً إلى سجن (كوبر) ، يحمل معه اللبن، والجرائد، والمجلات، وبعض ألعاب الكمبيوتر الصغيرة .. يتبادلان الحديث، والمدهش أن (مجدي ) كان يتصرف، ويتحدث بتلقائيته المعهودة، بينما كان (عادل ) يجاهد ليبدو طبيعياً، وكان صوته يخرج عميقا ومرهقاً، كأنه قادم من أعماق سحيقه داخل نفسه، ويتجنب النظر في عيني صديقه حتى لا يرى ألمه الهائل .. وفي المساء يحضر معه طعاماً، وبعض الملابس ويجلس معه لفترة . أخبره في أحدى هذه الزيارات أن (الوالده ) لها محاولات مع السيد (الرئيس ) حاكم النظام الجديد . أمتعض وطلب منه أن ينقل إليها رفضه لذلك .. والدائرة تدور ..والساعات تتناقص نحو المصير .. المحتوم .
*****
كأي يوم سبت عادي، أشرقت شمس ذلك اليوم على الخرطوم، في منتصف ديسمبر 1989م
ظهرت صحف ( الثورة ) ، كالعادة تُمجِّد رجالها، وتلعن الأحزاب ورجال الحكم السابق، ولكن لفت نظرالناس أن هناك عناويناً بارزة في كل الصحف ذلك الصباح تقول :ً
" تم أمس تنفيذ حكم الإعدام على تاجر عملة .. ومخدرات ." الخبر بصورته تلك، كان يُقرأ على أن تاجر العملة هو نفسه تاجر المخدرات .. رغم أن المقصود بتاجر العملة (مجدي)..! أما المخدرات فكانت تخص مو اطناً مصرياً، اُتهم مع بعض السودانيين، ولكن
الأدلة أثبتت انه صاحبها .. كما يقولون . وكان الخبر أيضا لقراءة رد الفعل لدى الشارع السياسي، وخاصة ً لدى العسكريين منهم، الذين في الخدمة أو الذين تم طردهم منها تحت مُسمى ( الصالح العام ) ، وخاصة رد فعل (خبر ) قتل (مجدي ). أكتمل شروق الشمس، والمعتقلين السياسيين يتجولون في فناء السجن، بحثاً عن الدفء في بداية هذا اليوم البارد، وبالقرب منهم بقية المحكومين، والمنتظرين لأحكام .. و (مجدي) ومجموعة الإعدام .. أي أنه كان حيّاً يرزق . تقاطر أهله أمام بوابة السجن فور قراءتهم لخبر صحف ذلك اليوم . وجاء (عادل )مسرعا .. همس أحد المعتقلين السياسيين لجاره بالأخبار .. لم يصدقها لأنه أشار بيده ناحية (مجدي ) ، الذي كان وقتها يقترب منهم ليبادلهم التحية ويجلس معهم .. ولم يخبروه .مدير السجن العمومي اللواء سجون (حجازي عابدون ) عندما قرأ الخبر هرول إلى بوابة السجن الرئيسية، حيث تجمع أهل (مجدي) تتقدمهم والدته وأخوته، وأخبرهم أن الخبر غير صحيح !.. طلب منهم الدخول فدخلوا إلى مكتبه، حيث أحضر لهم (مجدي ).. ولم تنطق الشفاه .. ولكن الدموع كانت تنساب بحرقة، ملهبة حتى للقلوب .. طمأنهم (مجدي ) أنه بخير وطلب عودتهم للمنزل، كما طلب من صديقه (عادل ) أن يحضر له بعض الأشياء الخاصة عند عودته مساء بطعام (الغداء).. وخرجوا .. لكن نظرات ( الأم ) كانت تقول أن هناك ً شيئا !.
انتظر (عادل ) قليلاً مع صديقه لحين إكتمال إنصراف أفراد الأسرة للمترل، عندما نهض ليودعه، على أمل اللقاء به في ظهر ذلك اليوم كالعادة، همس له مدير السجن : (بأن يأتي إليه لوحده الساعة الحادية عشر قبل الظهر !) ، حينها كان (مجدي ) متجها بصحبة حرسه إلى زنزانته، بينما كان (عادل )يجاهد الأّ تقع عيناه عليه، واضطرب وجيب قلبه .. ولكنه تماسك .. خارجاً، لايدري إلى أين؟!
عاد مسرعا إلى مكتب مدير السجن، وطلب منه أن يخبره بالحقيقة مباشرة، وإنه أو (مجدي ) سيتحملان هذه الحقيقة .. مهما كانت النتائج .. كان الحزن يكسو وجه المدير، الذي أخبره بصوت متأثر، بأن الإستئناف المقدم من المحامي تم رفضه، وقرأ عليه قرار رئيس القضاء الذي كان فحواه : " أن المتهم من الذين يشتغلون بالتهريب، وأنه من أسرة تمتهن التهريب وتخريب الإقتصاد، ويطالب بتوقيع أقسى العقوبة، والتشديد فيها .. وإنه يؤيد .. الإعدام ." وبالقرب من هذا القرار كان هناك توقيع رئيس مجلس الثورة، .. الشهير .. (أوافق)!!.. وأخبره ايضاً، أن تنفيذ الحكم سيتم الليلة، بعد أن أحضر (الملف) إبراهيم شمس الدين، عضو مجلس الثورة .. أحضره بنفسه إلى إدارة السجن، حيث سيتم التنفيذ .. والإعدام .ولأنه مقاتل، وخاض غمار الحروب، خاصة في جنوب البلاد ورأى فيها ما رأى، تلقى (عادل )الأمر بثبات الفرسان عند المحن، وطلب من المدير أن يسمح له بمقابلة ( مجدي ).. أستجاب لطلبه .. أندهش (مجدي) عندمل رأى صديقه بالمكتب وهو لم يفارقه إلاّ منذ قليل، ورأى في نظرات صديقه لمعاناً وبريقاً، يبدو كالضوء الخافت قادماً من على البعد، وبادره قائلاً : " عادل .. ماذا هناك؟ !!". لم يتمالك (عادل ) نفسه أخبره بفحوى قرار السيد رئيس القضاء وتأييده من رئيس مجلس الثورة .. وهو الإعدام، وسيتم التنفيذ ..الليلة .
لم يصدقا نفسيهما عندما رأيا (مجدي ) يبتسم وهو يمازح صديقه قا ئلاً : " هل تصدق يا عادل انني حلمت بأبي اليوم .." . وصار يهدئه، مو اصلاً أن الأمر لله وحده .. وأجهش (عادل ) ومدير السجن بالبكاء هذه المرة .. ولكن بصوت مكتوم، كدوي المدافع، ومراجل الصدور عندما يعتريها الغضب والشعور بالغبن والمهانة . أمر المدير بفك قيوده، وأجلسه قرب صديقه، وجلس ليدون على بعض الأوراق إجراءات الإستعداد .. لإعدام (مجدي ).. و (مجدي ) هاد ئاً يوصي صديقه :-
" بداية أوصي الجميع بالصبر، لأنها إرادة الله . لا تعملوا لي مأتماً .. ووالدتي بعد الوفاة تذهب إلى القاهرة، تبتعد عن البلد لفترة، لعل الزمن يداوي جراحها . آرجو أن يأتي فوراً محمد ومندور وكذلك الأخ مجدي مأمون حسب الرسول . وحساباتي المالية عندك، أرجو أن تتركها معك، إذا ظهرت لي ديون من أي شخص، أرجو أن تسددها بنفسك لألقى الله بريئا منها، وإذا تبقى منها شيئ وزعه على الفقراء من ( الأهل .. والناس ).. كان هاد ئاً وهو يتكلم ، و (عادل ) في حالة لا يعلمها إلاّ الله ولكنه يحاول التماسك .. في حوالى الساعة الواحدة بعد الظهر تم إجراء الكشف الطبي عليه، وتم أخذ وزنه وطوله .. وهوكان رائعاً كالعهد به، شامخا بتاريخ أسرته .. ووالده .. وفي منتهى الثبات . كان الوحيد الذي تابع معه هذا الإجراءات (عادل ).. هذا الوفيِّ حتى في لحظات الموت الذي يخيم بشبحه الرهيب على المكان .. و يضا كان يراقب الأحداث بصمت، لأن زمن الخوف .. والرهبة أنتهى، وأصبح الأمر و اقعاً .. وهم اولئك الجلادون، حتى غريزة الخوف داخل النفوس ! ، وعندما تموت مثل هذه الغريزة (الإنسانية ) داخل النفوس ! تبدأ لحظات المواجهة مع التحدي، ورغم الألم، ومرارة الإنتظار، لابد أن تشتعل جذوة الأمل في الحق .. والحقيقة .. والإنتصار .
أنتهت " مراسم " الإستعداد، لإعدام ( مجدي ) ، وسار بهدوء يتبعه حرسه، وتشيعه نظرات مدير السجن، (عادل) وبقية الموظفين الذين كانت دموعهم تسبق إجراءاتهم إلى زنزانته، وفي الطريق إليها عبر القسم (ج) ، حيث كانت أنظار كل المعتقلين السياسيين تتابعه، وبعضهم أجهش بالبكاء، وانسابت دموع البعض .. بهدؤ وهم يهدئون زملائهم .. ابتسم لهم (مجدي ) ، وأقترب من أحدهم، وهو (محامي ) مشهور طالباً منه بأدبه الجم ، أن يرسل إليه كو با من الشاي .. أرسله إليه في زنزانته مع حارس عابر في الممر والعبرات تكاد تخنقه من الحزن على هذا الشاب الوضئ .. الخلوق .. المهذب والهادئ حتى في أحلك الظروف .. وفي المساء أ ُضيئت الأنوار الكاشفة، بعد المغرب مباشرة، داخل السجن وخارجه، وانعدم الهمس والكلام بين الناس بداخله، حتى موظفي السجن كانوا يقومون بأعمالهم، وهي أشياء تعودوها بالممارسة ..كانوا يقومون بذلك في صمت، ونظرات زائغة، كأنها شعور بالذنب .. والظلم .
*****
إتصل ( عادل ) بممدوح في القاهرة، وأخبره بتسارع الأحداث والمستجدات . هرول الشقيق وسط زحام القاهرة المعروف إلى منزل الرئيس الأسبق ( نميري ) ، طالباً تدخله .. إتصل الأخير بالرئيس المصري ( حسني مبارك ) ، الذي بادر فور تلقيه النبأ بالإتصال بقائد (الثورة) الجديد في السودان، الذي أفاده أن ضرورة إستمرار الثورة تقتضي قرارات حاسمة !.. عادت كل هذه الإتصالات (لممدوح ) بفقدان الأمل وأخبر ( عادل ) في الخرطوم بذلك .. كانت الساعة تقترب من التاسعة مساءً (في ) ذلك اليوم، و (عادل ) مرابط داخل مباني السجن . أتاه ضابط سجون وأخبره أن التنفيذ .. بعد قليل وأنه سيذهب إلى (مجدي ) في زنزانته ليقرأ معه بعض آيات من القرآن الكريم .
نعم .. لقد أحب هذا الشاب كل من رآه . خرج (عادل) وجهز تصاريح المرور اللازمة لمرور جثمان (مجدي) إلى أهله عبر نقاط التفتيش العسكرية، لوجود حالة الطوارئ وحظر التجوال أيامها .. وفعلاً، جهّز أوراقاً لأكثر من ثلاثين عربة كانت تخص الأهل والأصدقاء والمعارف، المتجمعين خارج أسوار السجن .. ًوعند عودته في منتصف تلك الليلة، قابله (ملازم ) سجون خارجاً من غرفة الإعدام وهو يبكي بألم، وقال : ً" ياسيد (عادل).. أخوكم مات .. راجل؟

أستلم أحد الأقارب حاجيات (مجدي ): النظارة، وبعض الملابس، بينما تطايرت أوراق تصاريح المرور من يد (عادل ) ، الذي كان مذهولاً وقتها، حتى جمعها أحد الجنود من الأرض ووضعها في يده .أصطفت سيارات الأهل والأصدقاء والمعارف، بعد منتصف الليل بقليل، خارج أسوار السجن، وجاء(عادل ) واشقاء (مجدي ) يحملون جثمانه من الداخل عبر البوابة الرئيسية، ووضعوه في سيارة صديقه (مرتضى حسونه ) ، واتجهت السيارات عبر (جسر ) القوات المسلحة متجهة جنوبا إلى منزل الأسرة بالخرطوم (2) سمحت نقاط التفتيش وقتها بمرورهم السريع، لأن على جانبي الطرق كانت تتحرك
سيارات أخرى تراقب .. وتتابع هذا الموكب .. بداخلها (الزبير محمد صالح) ، (فيصل أبو صالح ) وكان وز يرا ً للداخلية، و (صلاح الدين كرار ).. و (إبراهيم شمس الدين).. أعضاء مجلس الثورة (الحاكم ) ، ولكن لعبة( الروليت ).. ما زالت مستمرة .. ولابد لها من أهداف أخرى .وصل الموكب إلى المنزل، حيث كانت كل الأنوار مضاءة .. والزحام رهيب، ولا يوجد موضع لقدم أو مكان لسيارة .. كل الأهل هناك في الخرطوم ) ).. 2 وكل أصدقاء الأسرة .. وحتى أ ُناس لا يعرفو??مأتوا .. والأقارب الذين أتوا من (سُُُرّة) وبعض قرى حلفا القديمة، وحلفا الجديدة، وسفراء وقناصل بعض الدول يتقدمهم صديق الأسرة .. وكل السودانيين، سفير دولة الكويت المرحوم (عبدالله السريُع ) ، وبعض
رجال المال والأعمال والإقتصاد من أصدقاء والده المرحوم (محجوب) ، وبعض الدبلوماسيين من أصدقاء المرحوم (جمال محمد أحمد).. ذلك الدبلوماسي والأديب الرائع الذائع الصيت، في حياته .. وبعد مماته، وكل أبناء وبنات الأهل .. وكل كهولهم .. بإختصار كل من كان يعرف تلك الليلة .. بالخرطوم وما يدور فيها، خاصة سكان الأحياء القريبة من الخرطوم (2) ، والذين تحدُوا حظر التجوال، وهي شهامة عُُرف بها أهل هذا البلد .. وفعلاً، وكما قال الأديب ( الطيب صالح ) " من أين أتى هؤلاء القوم؟ ".. هل يعرف الحكام الجدد مثل هذه الروح السودانية .. التي أزهقوا واحدة منها هذه الليلة؟ !.. كانت مخابراتهم ورجالها، حركاتهم وتحركاته?م ظاهرة للعيان .. في كل الشوارع المجاورة، وأجهزتهم الصوتية واللاسلكية يتردد صوت وشوشتها أحيانا ً، لأن كل المنطقة في ذلك الوقت .. وكل الناس، كانوا في حالة من الصمت الرهيب لا يسمع خلالها إلأّ بعض هنات وآهات حرُى، يكاد زفيرها يحرق حتى الأشجار المجاورة، لأن القهر يحجر حتى الدموع في العيون ويمنعها من التساقط .. (ولذلك .. ورغم مرور كل هذه السنوات مازال الجرح .. ند يّاً .. طرياً في قلوب الكثيرين .. والكثيرين جدا ..).
تم إدخال (الجثمان ) إلى غرفته، وحاولت والدته إلقاء نظره أخيره على وجهه هي وبناتها، ولكن تم منعهن بحزم من بعض كبار رجال الأسرة، لأن للشخص بعد إعدامه م نظر لا يمكن أن يمحى من الذاكرة، وذلك بتغير شكله الطبيعي .. خاصة منطقة العنق .. وهنُ ، وكل الأهل لم يروا (مجدي ) في حياته إلأّ جميلاً في شكله .. وقبل ذلك في أخلاقه .. جلس كل الناس الحاضرين، حول المنزل وداخل الأسوار وفي ممرات
طوابقه، يعلوهم حزن هائل .. ومخيف، في إنتظار إنبلاج الفجر وظهور الضياء لكي يتحرك موكب التشييع إلى مقبرة (فاروق ) ، حيث المدافن العامة، حيث والده واعمامه، وبقية المتوفين من العائلة .. ليرقد بجوارهم .. وتحت التراب، ليحكي لهم ما يدور على سطح الأرض .. أرض السودان .. ونظام حكمه .. الجديد . تحرك الموكب في حوالي الساعة السابعة والنصف صباحاً، والزحام الرهيب يغطي الطرقات،
والشارع الرئيسي في سوق الخرطوم (2) ،والمتجه جنوباً، توقفت حركة السير فيه ونزل بعض المواطنين من المواصلات العامة وأنضموا للموكب بدافع سوداني (فطري) ، هو الشهامة والشعور بأن هناك ظلماً أحاق بصاحب الجثمان .. وانتشر رجال الأمن يراقبون الموقف ..(إبراهيم شمس الدين ) بسيارته الكريسيدا البيضاء، يقودها من على البعد ويد على المقود، والأخرى قابضة على جهازه اللاسلكي يعطي الأوامر .. وانتشرت سيارات الشرطة حول المقبرة، وخارج أسوارها .. ولأول مرة تقدم الموكب فتيات الأسرة ونسائها عندما صمت بعض الرجال .. هتفن ضد الظلم، لاعنات هؤلاء الجلادين من رجال النظام وعلى رأسهم (إبراهيم شمس الدين ) والسيد (رئيس القضاء )؟ ! .. وأنطلقت حناجر الجميع .. وكان بركاناً . و .. ( إبراهيم شمس الدين ) كان هناك في الناحية الغربية لسور المقبرة .. من الخارج .. يراقب الموقف حتى إنتهت مراسم الدفن، وطلب البعض الهدوء، عند العودة للمنزل، حتى لا يتشفى ذلك ( الرابض ) خلف السور في جمهرة الناس ويأمر بإطلاق النار .. حتى داخل المقبرة، وهم الذين فعلوا ما فعلوه (بمجدي ).. دون أن تطرف لهم عين، أو تأخذهم شفقة . أستجابت الجموع على مضض لهذا النداء وعادوا صامتين . وبقي (مجدي ) جوار أبيه ( محجوب ).. ولكنه هذه المره كان هاد ئا فعلاً ذلك الهدوء المثير والأبدي .
*****
كانت أيام العزاء لهذا (الشاب) ملحمة وطنية . يعتري الغضب النفوس بصمت، ويظهر في العيون المحمرُة من الإنفعال والسهر . ورغم ثراء الأسرة ومحاولاتها إكرام ضيوفها المعزُين من طعام وشراب، كعادة السودانيين في مآتمهم، إلاّ أن أحد لم يذق طعما لشراب أو يجد لذة في أكل .. الكل في حالة ذهول . وطيف ً (مجدي ) يحوم حولهم بإبتسامته الدائمة .. ويغمرهم بدفء أخلاقه الحميدة .وأيامها، حتى بعض العسكريين من الأصدقاء والمعارف، لم يترددوا ولو للحظة من حضور مراسم الدفن وأيام العزاء .. وكانت أعين الأجهزة الأمنية تراقبهم، لكنهم لم يجبنوا .. ولم يستطع الأهل أو (عادل ) أن ينفذوا وصية (المرحوم ) بشأن العزاء، لأن سيل القادمين إليهم كان بالكثرة التي لا يستطيعون
منعها .. كان هؤلاء تحملهم عواطفهم، وتعاطفهم وهي وحدها تقود السودانيين عندما يشعرون بأن هناك ظلما قد حاق بأحدهم .

وأستمرت لعبة ( الروليت ).. بعد عدة أيام تم إعدام الطالب (أركانجلو) ، والذي ضُُبط بمطار الخرطوم وهو يستعد للسفر إلى ( يوغندا ) حيث يدرس، بجامعة (ماكريري ). وكان قد حضر إلى السودان وباع جزء من أبقار أهله بالجنوب . والمبالغ التي تم ضبطها معه هي : (21.250)ألف دولار أمريكي، (470)جنيه أسترليني، (610)مارك ألماني، خبأها في حذائه عله ينفد بها ويكمل سنواته متصله خارج البلاد، وهي مبالغ تكفيه طيلة سنوات دراسته في غربته .
وفي يوم 24 ديسمبر 1989 م، تم الحكم على مساعد الطيار (جرجس).. بالإعدام .. والطريف أن صحيفة الثورة أيامها واسمها (الإنقاذ الوطني) ، العدد (83)بتاريخ 25 ديسمبر 1989 م نشرت الخبر وتحته عنواناً آخر وبالخط العريض، على النحو التالي : قائد الثورة يهنئ الشعب عامة، والمسيحيين خاصة .. بأعياد ميلاد المسيح عليه السلام .
أما المتهم ( علي بشير المريود ) ، والذي تحاكم في نفس يوم، وساعة حكم (مجدي) ، أمام المحكمة الخاصة رقم (.. 2)وصدر ضده حكم بالإعدام لأنه وجد بحوزته كما ذكرنا : (37.350)ألف دولار أمريكي، (1.100)ألف دولار أخرى .. هذا المتهم .. أختفى ..! من سجن (كوبر ) ، بعد إعدام (مجدي) مباشرة .. وقيل حسب إفادات شهود (عيان ) (ومن داخل جهاز أستخباري قوي حينها ) ، أن أسرته وكبارها حضروا من أحدى قرى (شندي ) وقابلوا رئيس مجلس الثورة ! ، وهددوا بأنه إذا تم إعدام إبنها، فإنها ستمحوا كل منطقة أهل (الرئيس ) من على ظهر الأرض !!.. والمتهم ( الآن ) تاجر معروف بأحد أسواق العاصمة الكبرى !!.
أنتهت أيام العزاء (لمجدي ) ، وبدأ الأهل والأقارب يعودون إلى مناطقهم، والأصدقاء والمعارف إلى أعمالهم .. إذ لا حيلة لهم، وعجلة الحياة لابد لها أن تدور وتستمر، ولكن الجرح الذي تركه هذا (الفقيد) من الصعب أن يندمل، إذ أن مجرد ذكراه ولو عابره .. تترك حزنا هائلاً في العيون .. حتى لو للحظات، وتهّيج الذكريات التي تبدو كأنها .. حدثت بالأمس، أو أنها ما زالت مستمرة .(الأم ) سافرت إلى القاهرة، حسب وصيته، ومكثت زهاء الخمس سنوات بها، وكانت دائمة الحركة والسفر منها إلى الأراضي المقدسة في كل موسم حج أو عمرة، تدعو الله أن يغفر لإبنها وأن يعوُض شبابه (الجنة) ، وكانت سلوتها أن تملئ عينيها بمنظر (الكعبة المشرفة) في مكة، وتتنسم رائحة الرسول " صلى الله عليه وسلم " عند قبره بالمدينة المنورة، وتدعو .. وتظل تدعو كلما اسعفها الزمن بالوقوف أو الحركة في تلك الأمكنة الطاهرة، أو عند عودتها طيلة الطريق إلى شقتها بالقاهرة .. ولكن الشوق وحنان الأم يدعوانها للخرطوم، لزيارة قبر زوجها (محجوب ).. وقبر إبنها (مجدي ) ، وقراءة (الفاتحة ).. والتصدق على روحيهما للفقراء والمحتاجين، وأرواح الأعزاء من الأهل .. جميعاً . (ممدوح) صار يتنقل ما بين القاهرة وبعض دول الخليج يتابع أعماله التجارية، ولم تستطع السنين أن تمحو صورة أخيه من ذاكرته . (مرعي ) أستقر بلندن، وضباب المدينة يغمره بالذكريات مثل الكثيرين، خاصة ذكريات " ساوث هامبتون " حيث درس أخوه .. جنوبي لندن . (مديحة ) هاجرت مع زوجها إلى (الولايات المتحدة الأمريكية ) في نصف الكرة الغربي .. بعيد اً علها تنسى .. ولكن ذكرياتها في نصف الكرة الشرقي .. في السودان .. وطنها، ما زالت بطعم العلقم .. و (منى) الزراعية، والأستاذة النشطة بجامعة الخرطوم، كانت ترى وجه أخيها المحبوب في كل زرعة خضراء، وورقة ندية، يبشران بالمستقبل الأخضر .. رغم الظلم .. و (منيرة ) تجد صورة أخيها في تلاطم أمواج (الخليج ) .. عند ساحل مدينة ( أبوظبي ) والتي تحمل ترحماتها ودعواتها إلى بلادها، وبالتحديد إلى مقابر (فاروق ) حيث يرقد أخوها بجوار والدها، يتناجيان بين يدي (الله ) العادل .. و (مها) لم تفقد الأمل بد في مستقبل هذا البلد .. ما دام (مهره) كان دم (مجدي) أخيها . أما ( محمد ).. و (مندور ) فما زالا يكافحان .. في السودان،
بإسم ومستقبل .. أسرة (محجوب محمد أحمد ) ومن أجل إقتصاد بلد، عله يصحو من كبوته .. مثلما فعل قبلهما .. ذلك العصامي (محجوب محمد أحمد )
هل الإنقلابات العسكرية .. والعقائدية منها، لا تدري ماذا تفعل إلاّ حين الوصول إلى السلطة؟ أم أ??ا
تأتي مسبقا وهي تعلم ما تريد؟ ! أم أنه لا هذا .. ولا ذاك ! بل الوصول إلى السلطة فقط، وبعد ذلك تفصُل ً القوانين حسب الحاجة، وكما يقول المثل السوداني "رزق اليوم باليوم ".. أصبح هناك قانوناً لكل يوم، أو ً قانونا لكل حدث يختمر في الرأس، وينفّذ كتابة أو شفاهة .. مثل ما فعل العقيد (محمد الأمين خليفة ) ، عضو مجلس الثورة ومسؤول القسم الشرقي : عندما " أمر بحل الإتحاد التعاوني لمنطقة خشم القربة، رغم نجاحاته المشهودة، ليأتي بإتحاد بديل يؤيد النظام .. وعند إحتجاج الأهالي وتوضيحهم أن ذلك عمل غير قانوني،
أجابهم (مولانا).. أن كلامي وما تنطقه شفتاي هو القانون ..!".
والقانون الذي أعدم (مجدي ).. هو (ذات ) القانون الذي جعل (المريود ) ، والمحكوم عليه بالإعدام أيضاً يختفي ليظهر مرة أخرى، تاجر مشهور كما ذكرنا . وهو نفس القانون الذي أعدم مساعد الطيار(جرجس ).. والطالب (أركانجلو ).. وأطلق سراح (هاني وليم شكور ) صاحب مصنع الصباغُون المُتحدون بالمنطقة الصناعية بحري، بعد أن دفعت أسرته مبلغ ثلاثين (ثلاثون) ً مليونا من الجنيهات .. فداء له، بعد أن ضبطت سلطات مطار الخرطوم بتاريخ مايو 1990 المدعوه (وداد عبدالحميد) المسافرة إلى القاهرة وبحوزتها (500) ريال سعودي، (36.250)ألف دولار أمريكي، (50) جنيه أسترليني، 960 جرام من الذهب . كانت المبالغ تخص المذكور وهي مجرد (ناقل ).. وأعترفت بذلك، وتم إطلاق سراحها نظر لشهادتها وأصبحت ما يُُعرف ب (شاهد ملك ) كما يقول القانون . هذه المحاكمات، كما ذكرنا كانت بنفس القانون، وأمام نفس القضاة .. قضاة محاكم (أمن الثورة).
والمحكمة الخاصة رقم (2) تحاكم أمامها الكثيرون فلنأخذ هذه الأمثلة ::
- أحكام إعدامات :
. 1 أصدرت حكما بالإعدام .. ضد (المريود).. وهو الآن حياً يرزق .
. 2 أصدرت حكما بالإعدام .. ضد (هاني وليم شكور).. وآخرين .. والأول حيا يرزق .
. 3 أصدرت حكما بالإعدام .. ضد الطالب (أركانجلو ).. وتم تنفيذ الحكم . ً
. 4 وفي ديسمبر 1989 م، أصدرت حكم بإطلاق سراح المتهم (أحمد الأمين عمر)22 سنه مع وضعه تحت الإختبار، وحسن السير والسلوك لمدة ثلاث سنوات وذلك (لتعادل) البينات ضد المتهم مع البينات لصالحه، ومصادرة المبلغ الذي حاول تهريبه عبر المطار إلى (دبي) وهو (11.150)ألف ريال سعودي، (400) درهم إماراتي، لأنه أنكر أن الأمتعة التي وجدت المبالغ بداخلها تخصُه، مع وجود شهود .. بذلك ..؟ !!وعلى سبيل المثال يضا : المحكمة الخاصة رقم (3):-
(1)أعدمت ( مجدي ).
(2) ولأن إعدامه .. لم يكن قراراً صائباً، حكمت على النقابية، الأستاذة (سميرة ً حسن مهدي )، التي كانت تشغل منصب سكرتير النقابة العامة لموظفي الهيئة القضائية على مستوى السودان، بالسجن لمدة (ست سنوات) ، لأنها قامت بتوزيع منشورات من داخل الهيئة القضائية، حيث كانت في وظيفة (مدير مكتب التفتيش والشكاوى) بأمانة مجلس القضاء العالي، وكانت المنشورات تقول : أن قادة الإنقلاب من عناصر (الجبهة الإسلامية القومية) بزعامة (د . حسن الترابي ) ، وكانت هي الوحيدة التي تحاكمت عسكرياً، وس ياس يا وقضت كل فترة العقوبة .. أ وُعتبرت الأستاذه (سميرة) محظوظةً ، لأنها أفلتت من حبل المشنقة .. (حبل مجدي).. حيث تراجعت المحكمة عن إعدامها بناء على نص المادة (96 ك) ، لشعورها أن إعدام (مجدي محجوب).. لم يكن موفقا ولا تريد تكرار الخطأ !!.. القضاة هم ..نفس قضاة ( مجدي ).. من العسكريين؟ !.
** الجزء الأخير من الفقرة أعلاه من جريدة (الوفاق) لصاحبها الصحفي (محمد طه محمد أحمد ) ، العدد ( 967)بتاريخ 20001/10/1م .. وتطرقت نفس الصحيفة في عددها رقم (942)بتاريخ 30 أغسطس 2000 م إلى قضية (مجدي ) ، بعد كل هذه السنوات .. فقالت:" في الوقت الذي صدرت فيه تصريحات صحفية منسوبة إلى الأستاذ (أمين بناني ) ، وزير الدولة بالعدل (أنشق عن الإسلاميين .. وكوُن حزبا سماه العدالة !).. يقول في تصريحات صحفية: أنه سيقوم بجولة في الولايات ومن ضمنها ولاية (شمال كردفان ) ، وسوف يتحدث في ندوة كبرى بمدينة (الأبيض) ، يطرح فيها آخر ما توصلت إليه التحقيقات في (مشروع طريق الإنقاذ الغربي )وأنه سيكشف عن معلومات جديدة حول هذا الأمر، وأن شمال كردفان من الولايات التي قدمت مساهمات كبيرة، عن طريق تبرع مواطنيها بحصتهم من السكر لصالح مشروع الطريق مع ولايات الغرب الأخرى .. وفي هذا الوقت نسبت الصحف مثل ( الأيام ).. أمس .. وفي الصفحة الأولى، وبالبنط الأحمر العريض، نسبت لوزير العدل ( علي محمد عثمان يس ).. القول : أن وزارته سوف تسترد أموال طريق الإنقاذ الغربي، قبل المحاكمة؟ !!.. وتقول التفاصيل : أن دائرة قانونية برئاسة وعضوية كبار المسئولين بوزراة العدل تتولى تقييم نتائج التحقيق في مخالفات طريق الإنقاذ الغربي .. وأضاف أن هم الدائرة الأول هو إسترداد المال العام، دون أن ينقص قرشا واحداً، وأن الوزارة ستنظر في أمر أي جهة متهمة، إذا أبدت أستعدادها لرد أموال الطريق، وهمنا إسترداد المال العام قبل السعي للتجريم والعقوبة !.. وشدد وزير العدل، إلى أنه سيمضي إلى آخر الطريق في بسط سيادة حكم القانون، دون تهاون .. ولكن الوزارة لن تأخذ أحد بالشبهات والإتهامات المثارة، دون تثبت ودون وجود بينة أو دليل قطعي يثبت صحة أو بطلان الإتهامات !. وما بين تصريحات (بناني ) وزير الدولة بالعدل والنائب العام، وتصريحات (ياسين ) الوزير الكبير بالعدل .. تقف الجماهير حائرة .. و (بناني ) بعدما أثار مخالفات البنوك، ذهب إلى مناطق ومدن طريق الإنقاذ الغربي، ليقول كل ما توصل إليه من معلومات، من الملفات الرسمية، ولجنة التحقيق التي ترأسها المدُعي العام لجمهورية السودان السيد ( عبدالناصر عبدالعزيز ونان ). وكان يفترض أن تعقد لجنة التحقيق مؤتمرًا صحفياً، بعد أن فرغت من عملها الشاق، وبد أن أدّت القسم في تلك القضية الشائكة .
إن قضية طريق الإنقاذ الغربي هي أخطر قضية في عهد الإنقاذ، وهي أخطر بكثير من قضية (مبيعات البترول ) ، والتي أ ُقتيد فيها رجل الأعمال الشهير (خضر الشريف ) إلى السجن، ثم دفع عبر التسوية ملايين الدولارات، وقيل أن عقاراته وممتلكاته قد حُُجزت .. وكان هذا في العهد الإنتقالي، حينما كان الأستاذ (عمر عبدالعاطي )نائبا ً عاماً .. وفيما بعد، حينما تولى الأستاذ (عبدالمحمود الحاج صالح) منصب النائب العام، رفض مبدأ التسويات، بمنطق يقول :أن القضايا يجب أن تذهب بعد التحقيق إلى المحاكم .. وهي وحدها يمكن أنت ُُعطي البراءة للمتهم .. أو تدينه، ولا يمكن للجهاز التنفيذي أن يكون خصما وحكما .ولكن هل يعود السيد (على محمد عثمان يس) للتسويات في طريق الإنقاذ الغربي؟!. أن لجنة التحقيق الأولى التي كونها اللواء (الهادي بشرى ) وزير الطرق والإتصالات، كشفت عن مخالفات في أموال الطريق تصل إلى (خمسين مليون دولار !!) ولم يعترف بها (علي الحاج) المسئول الكبير في الطريق، ولم يمثل أمامها، وطعن أمام القضاء في تكوينها، ولكن القضاء حكم بقانونية تكوينها .. ثم تكونت لجنة تحقيق أخرى، بواسطة وزير العدل والنائب العام، بنفس قانون لجان التحقيق، الذي تكونت به اللجنة الأولى . وأخذت اللجنة الجديدة أقوال (علي الحاج) ، والآن فها هي نتائج التحقيق أمام الوزير الكبير السيد (ياسين ).إن (علي الحاج ) لم يسكت طوال عمل لجان التحقيق، فهو يعقد المؤتمرات الصحفية، والندولت في الخرطوم، الفاشر، نيالا، والأبيض و يهاجم من قال انهم (جنرالات) ، مشيراً إلى اللواء (الهادي بشرى ). ويهاجم وزير المالية السابق (عبد الوهاب عثمان) ويحاول تسييس قضية .. هي أمام رجال القانون . وفي آخر ندوة له بالأبيض، فوجئ بأن المواطنين يسألونه عن أطنان السكر !؟
(( المؤلف : بل أنه تحدى الحكومة .. والقصر .. والنائب العام .. والقضاء أن يقدموه للمحاكمة، ورد بأنه حر ويتجول كيف يشاء . وذلك بندوة في مدينة أم روابة .)) ( الآن هو هارب بألمانيا ). ولحسن الحظ فإن قضية طرق الإنقاذ الغربي تفجرت قبل إنشقاق التنظيم الحاكم ، بل أن تقرير لجنة التحقيق الأولى قد تُُلي أما المجلس الوطني قبل حلّه في 12 ديسمبر 1999 م .. إذا في قضية قانونية بحته ولا يمكن أن يقال أن الصراع السياسي تدخل فيها. إذاً أراد وزير العدل بطريقة التسويات استرداد أموال الطريق قبل المحاكمة، فهذا يعني أن الإدانة قد حدثت وقبل بها الطرف الذي سيدفع ما أخذه، أو (ما دخل
عليه) من أموال الطريق .. أي أن (المال) سار بقدميه ودقُ ابواب المتهمين، أو قفز من السور .. ودخل الخزينة الخاصة .إن ( علي ياسين ).. وزير العدل يقول أنه لن يترك قرشاً واحداً، ولكن ماذا؟ إذا أخذ (س) من الناس مليون دولار من مال الشعب وأرجعه بعد عشر سنوات .. هل هذا هو العدل؟ !!.
أين نصوص خيانة الأمانة في القانون الجنائي الوضعي، والقانون الجنائي الإسلامي؟؟ . إن مولانا(المكاشفي) ، في عهد (نميري) قطع يد (محاسب) وادي سيدنا، لخيانة الأمانة .. وسلطة الإنقاذ الحالية، أعدمت المرحوم (مجدي ) ، حينما وجدت مالاً بالعملات الصعبة في خزينته .. وهو ماله ولم يسرقه من طريق الإنقاذ الغربي .. إنه ماله .. ومال أهله .. وكان منطق حكم الإعدام، أن مجرد تخزين العملات الصعبة وعدم مرورها عبر القنوات البنكية، تخريب للإقتصاد الوطني .. ومحاربة لله ورسوله ..!!؟؟ .
إن التسوية لم تتم مع (مجدي) ، فلم يغرم جزء من المال مثلاً .. ولم يصادر كل المال العام، وتكتب له الحياة، ولكنه .. ( ُ أعدِِم ).. نتمنى أن تكون التصريحات المنسوبة (لمولانا ) وزير العدل غير صحيحة ..والحديث الشريف يقول :" تعافوا الحدود فيما بينكم .. فإذا وصلت للمحاكم فلا عفا الله عنه .. إن عفا ". أنتهى مقال الجريدة المذكورة بالعدد (942) بتاريخ 30 أغسطس 2000 م .
*****
عليه) من أموال الطريق .. أي أن (المال) سار بقدميه ودق? ابواب المتهمين، أو قفز من السور .. ودخل إن عفا ". أنتهى مقال الجريدة المذكورة بالعدد ) ) 942 بتاريخ . 30
*****
(ب ) (مجدي).. قُتل .. مات .. أ ُغتيل .. كلها عبارات تؤدي إلى نتيجة نهائية، هي أن الشخص أختفى من مسرح الحياة .. وأنتقل إلى حياة أخرى، هي ما بعد الموت، حيث العدالة المطلقة، والحقُُائق المجردة ، والحكم الإلهي .. العادل ولكن .. طيلة كل هذه السنوات، هل توقف سعر الدولار عن الأرتفاع، ووصل إلى الحد الُُذي يتمناه حكام الإنقاذ؟ .. هل استطاعوا منع تجارة العملات الحرّة؟ .. كم كان سعره عندما استولوا (عليه) وعلى السلطة؟ (12 ج ) س . وكم صار سعره اليوم؟ (2.260) .. من هم تجار هذه السلعة وزبائنها اليوم؟؟ .. في السوق .. أو النظام .. وكلاهما وجهان لعملة واحدة، رديئة الُُصنع .. والإخُُراج .. هُُي (الإنقاذ). وصفها شاعر شعبي ببيتين من الشعر .. في أبلغ وصف :-
إنقلع الموتَّد .. وإتوتّد المقلوع
جاعت بيوت الشّبع .. وشبعت بيوت الجوع

هل استطاع رئيس اللجنة الإقتصادية لمجلس قيادة الثورة وتابعه (رئيس لجنة متابعة قرارات اللجنة الإقتصادية) كبح جماح إرتفاع الأسعار؟ .. نرجو أن نسمع ً يوما (ما) إجابة من السيد (العقيد البحري ).. صلاح كرار، الذي أنتهى به المقام سفير لهذه البلاد في مملكة (البحرين ).. وحتى هذه أُرجع منها .. وطُرِد !!. اً
ترى هل يتذكر هذا الرجل !.. أيام دراسته ( بيوغسلاغيا ) السابقة في فترة السبعينات، وهُُوً مبعوثا من الجيش السوداني لدراسة البحرية هناك، هل يتذكر تجارته ما بين مدينة (ريكا)، حيث الأكاديمية البحرية .. وطلابها من مختلف الدول ، ورحلاته المتعددة منها إلى مدينة (تريست) علُُى الحدود اليوغسلافية – الإيطالية، وتجارة المعاطف والبدلات الشتوية .. بأرباحه في تجارة (الدولار ) ، حُُتى أنه اشتهر بين أواسط (أوساط ) الطلاب السودانيين، والدارسين الأجانب بأسم (صلاح دولار ).. وكانعمله هذا مخالفاً لقوانين تلك ا لبلاد .. خاصة تجارة العملة .. هل هو يعرف الوفاء حُُتى لُُزملاءه مُُن العسكريين؟ ولماذا كان أول ضحاياه للصالح العام (الطرد من الخدمة ).. العقيد بحُُري مهنُُدس (عبُُد الرحيم عيسى الأمير ) ، الذي أستضافه بشهامة وكرم السودانيين عند وصوله أول الأمر للدراسة .. بمنزله ووسط أفراد أسرته !!.
بعد تلك الإعدامات الشهيرة .. تنقل سيادته ما بين اللجنة الإقتصادية ( بعُُد حُُلّ مجلُُس الثورة ) ، و وزارة الطاقة .. إلى رئاسة مجلس الوزراء، وزياراته المتكررة إلى (جهاز شؤون العاملين بالخارج ) بحكم منصبه، وأن هذا الجهاز تابع له إدارياً، حيث مارس إنفعالاته ضد الم غتربين بدول المهجر، والُُذين يترددون على هذا الجهاز لإكمال بعض المعاملات التي تفرضها الدولة قسراً .. وحتى ضد العاملين بهُُذا الجهاز .. يبدو أنه الحنين والشوق الفائض للعملات الحرّة .. في بلد أصبح التقدير والإحترام فيه .. فقُُط لحرية العملات الحرّة .. والصعبه فيه (جد ). نكتفي بمثال واحد عن هذه الشخصية الراكضة خلف أموال الأموات .. والأحياء .. وحتى أموال هذا البلد، مما ورد في صحيفة (الوطن ) لصاحبها (سيد أحمد خليفة ) ، وهو يتحدث عن : الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس (المثيرة للجدل ) ، في العدد (165)بتاريخ 24 أبريل 2001 م :-
" ماذا تقول إدارة الهيئة عن التقرير الخاص بالعلاقة مع شركة (فاس) ، والمضمن في الخطاب الُُذي يحمل الرقم هُُ/م/50/1/40 بتاريخ 6/12/1999م، والموقّع بإسم المستشار القانوني ( سهام عثمُُان حمد ) ، والذي تطالب فيه شركة ( فاس ) ، برد أموال أ ُخذت من الهيئة، مقابل خدمات لم تُقد?م ..! والبُُالغ قدرهامليار وسبعمائة وستة وعشرون مليون جنيه سوداني .. وفي قائمة الأسماء المؤسسين لشركة ( فُُاس ) التي وردت العديد من المستندات بشأنها .. ورد إسم أحد كبار المسئولين في تلك الفترة، هُُو المهنُُدس( صلاح الدين محمد أحمد كرار ).. ( يتساءل الصحفي ).. هل الشخص المعني هنا هو الوزير السابق .. والسفير حالياً؟ وهل دخل الشركة تلك، وفي تلك الفترة وهو في الخدمة العامة .. وزيراً أو سفيراً، أو خلافه، أم دخلها بصفة خاصة بعد تركه للعمل الحكومي .. علماً بأن عقد التأسيس يشير إلى أن شركة ( فاس) المذكورة .. هي شركة خاصة؟ !. نعرف أن السماء في أزهي عصور الإسلام لم تكن تمطر ذه باً ولا فض?ة .. ولا نظُُن أنها ستمطر ذلك بعد 30 يونيو 1989 م .. خاصة في بعض أفقر أحياء الخرطوم العديدة .. منها ( الحلة الجديدة)!!.
*****
أما ذلك الفتى .. القاضي .. الجلاد، والذي يقبض على المشبوهين والمتهمين بنفسه .. ثم يجلس علىمنصة القضاء، ليحاكمهم مع زملاءه من العسكريين، ليصدروا ضد البعض ً أحكاما تُُصل عقوبتها إلىالإعدام .. إسمه ( يوسف آدم نورين ) ، نقيب مهندس بالقوات الجوية، وأحد قضاة المحكمة الخاصة رقم (3) ، والتي أعدمت ( مجدي ).. والذي نشر الرعب في كل منطقة ا لخرطوم، وكان مسئولاً عن ( بيت الأشباح ) الشهير، الذي يقع خلف ( المصرف العربي ) بمنطقة الخرطوم شرق، ومُُسئولاً أيضاً عن كل الممارسات اللادينية، واللا أخلاقية التي كانت تتم بداخله، ضد المعتقلين السياسيين .
هذا الفتى كانت تحت يده الكثير من السلطات .. والرجال .. والأموال .. والسيارات، حتى يؤمن ( الثورة ) ضد أعداءها، وحتى ( يؤمنها ) بطريقة صحيحة كما يعتقد ولقنوه، كان لابُُد أن يُُتعلم قيُُادة السيارات ,, وحتى يتعلمها ويتقنها بطريقة جيدة - خاصة المطاردات ( للأعداء من السودانيين )- تطلب الأمر أن تتحطم ثلاث سيارات من العُهدة الحكومية، وأن يُقطع أحد أصابع يده ثمناً لذلك .. وبعدها أصبح يجيد القيادة . وتطلبت هذه القيادة، و ( بسيارات أجود وأسرع .. وأمتن ) ، وجود ( عروس ) جديدة تلازم المرحلُُة الجديدة من حياته .. لأن الأولى من ( قريته ) وهي لا تجيد ( فن تحمّل المسئولية .. والسلطة الجديدة ).. أي تتناسب مع طبيعة المرحلة الجديدة من حياته . ولزم الأمر للعروس الجديدة ً منزلا حكوم ياً جديدًا بشارع السيد (علي عبد اللطيف ) غرب الخرطوم .. وهناك تكو?ن التشكيل الجديد .. الإجرامي .. من خاصته ومُُن أجل المزيد من الرعب والمزيد من .. المال !!.
حتى كانت ( الضربة القاضية ).. والفضيحة للسيد القاضي، أحد أعضاء المحكمة الخاصة رقُُم (3)
المحكمة التي أعدمت ( مجدي ) ، حين أكتشفت السلطات الأمنية أثناء مطاردتها لبعض المجرمين أنهم التجُُأوا إلى هذا المنزل ليلاً!.. تم الإقتحام، وبوجوده عثرت السلطات الأمنية على الكثير من الأموال المنهوبة من المواطنين .. وكانت من ضمن هذه الأموال ( سرقة كبرى ) تمت من أحد أبناء ( الكوارته ) وهي أسرة واسعة
الثراء ، أشتهرت بالتجارة .. وجدت مسروقاتها بمنزل السيد ( القاضي).. العسكري .. ولم تجد السلطةالحاكمة، وهي في بداياتها، والفضيحة بدأت في الإنتشار .. ودم (مجدي).. لم يجف? بعد؟! لم تجُُد سوى أن عقد له محكمة عسكرية أوصت بالآتي :-
(1) العزل من الرتبة .
(2) الطرد من القوات المسلحة .
(3) السجن لمدة ثلاث سنوات .
وتم التصديق على هذه الأحكام بواسطة رئيس هيئة أركان القوات المسلحة .. وقتها ( الفريُُق أ . ح .) حسان عبد الرحمن ، ونقل سعادة القاضي إلى سجن منطقُُة ( الجريُُف غرب ) ليقضي عقوبة السجن وسط المدنيين .. وهي في الأعراف العسكرية منتهى المهانة .. والذّل .. ولكن أصابع الشيخ ( الترابي ) الخفية .. كانت هناك !.. حيث تم إطلاق سراح ( المتهم )..وأُلحق فوراً بكورس متقدم للدراسات الفنية بإيطاليا، وعاد منها ليصبح أحد مهندسي ( التصنيع الحربي ).. لم يمكث هناك ً طويلا ..وأصبح أحد مهندسي ( قسم صلاحية الطائرات ) بشركة ( سودانير ).. الخطوط الجوية السودانية . وبعد
الإنشقاق الشهير للحزب الحاكم، أنضم لحزب ( الترابي ) ، ( المؤتمر الشعبي ).. وقبض عليه بتهمة التآمر علُُى الدولة .. وحمل السلاح .. وهو ( الآن ) بالسجن .
*****
أما سعادة السيد ( رئيس القضاء ) ، في تلك الأيام الحالكة السواد، وبحكُُم تُُاريخ القُُضاء
المستقل، نحترمه .. ونحترم هذا الجهاز، أو هذه الهيئة، ونربأ بها عن كل خطأ أو خطيئة .. لأنها ملاذ كل لسودانيين عند المحن وعند الخصومات المدنية .. والجنائية .. والسياسية . نربأ بها، وبأحد رجالها أن يؤيدإعدام ( مجدي ) أو غيره في تلك الأيام .. وتلك الفوضى الضاربة أطنابها في البلاد .مصادرنا ( السرية ).. ومنهم من كان ، رهن الإعتقال السياسي بسجن ( كوبر ) ، أفُُاد أن مُُذكرة( الإستئناف ).. لحكم ( مجدي ) والمقدمة للسيد رئيس القضاء، والتي يعرف الجميع أن كاتبها هو ( المحُُامي )
الأستاذ ( عبد الحليم الطاهر ) ، .. يفيد ( المصدر ) أن هذه المذكرة والتي قرأها بالسجن لم تكن هي ! ؟ بل ذكرة أخرى بأسم الأستاذة المحامية (......) !! سر?بت إليه في السجن كانت مذكرة في منتهى الضعفالقانوني، ويزداد التعجب ! الممزوج بالألم، إذا علمنا بأن هذه الأستاذة ( المحامية ) ، كانت تدير ً مكتبا يُنظّم
مل المحاكم، ومن ضمنها محاكم سريعة الإنجاز، كانت تُعرف باسم محُُاكم ( الخيمُُة ).. قُُضاتها من لعسكريين، وعلى المتضرر من بطء الإجراءات الإعتيادية .. أن يتقدم بطلب للسيد ( رئيس القضاء ) ، بعددفع رسوم قدرها ( في تلك الأيام ) مئتان وخمسون ً ألفا من الجنيهات، لتحو?ل قضيته إلى محاكم ( الخيمُُة )..ليضمن سرعة .. العدل !! وفي تلك الأيام كان كل من يريد إخلاء عقار سكني، أو متجر أو مصنع مُُؤجرللغير، انتهزوا فرصتهم وانطلقوا بطلباتهم .. وفلوسهم إلى مكتب الأستاذة (.....) وتم لهم ما أرادوا .. كما تم لغيرهم ما أرادوا أيضاً ..
*****
في اليوم الخامس من شهر يونيو 1999 م، طالعتنا الصحف الصادرة في الخرطوم، وبعناوين بارزة في صدر صفحاتها الأولى .. نأخذ منها ما صدر في صحيفة ( ألوان ) ، بالعدد رقم (999) :-
" أستشهاد خمسون عسكر ياً في تحطم طائرة نقل .. شرق الخرطوم ". الحادثة كما أوردتها الصحيفة المذكورة : أنه في يوم الخميس الموافق 3 يونيو، وفي الساعة الثامنة
مساء، وأثناء رحلة أحدى الطائرات العسكرية من مطار ( كسلا ) شرق السودان، إلى الخرطوم، تعرضت الطائرة إلى عطل فني تسبب في فقدان السيطرة عليها، مما أدى إلى إخلال توازنها، ثم هوت واصُُطدمت بالأرض على بعد حوالي (80) كم شرق الخرطوم . وأشتعلت النيران بالطائرة، ونتج عن ذلك إستشهاد كل ركابها وطاقمها، وجميعهم من العسكريين، والبالغ عددهم خمسون، منهم ست ضباط .
كشف الناطق الرسمي بأسم القوات المسلحة، أن الحادث المؤلم وقع جنوب شُُرق مدينُُة ( أبودليق ) بالقرب من جبل ( قيلي ) ، مبيناً أن المعلومات الأولية كُُشفت أن ( عوامُُل الطقُُس .. وراء الحادث)!! وقال شهود عيان انهم شاهدوا الطائرة تهوي، وهي في حالة إحتراق . كما أوضُُح النُُاطق الرسمي باسم القوات المسلحة، ان الضباط الستة الذين استشهدوا جميعهم من ( الرتب الصغيرة ).. ( إنتهى الخبر كما أوردته صحيفة .. ألوان ).
سببت طائرات الأنتينوف الروسية الكثير من المآسي في السودان للكثير من الأسر السودانية، مدنيين وعسكريين على حد سواء .. إذ بعد تفكك الأتحاد السوفيتي سابقاً، أصبحت من أهم السلع العسكرية التي تلهث وراءها دول العالم الثالث لرخص أسعارها مقارنة بأسعار الطائرات الأوربية الصنع ..
ورغم تاريخها القديم ً صنعا إلاّ أن ( مافيا ) السلاح الروسي وجدت لها أسواقاً في هذه الدول ومنها
السودان .. و ( مافيا ) نظام الإنقاذ من العسكريين والمستفيدين من تجارهم، خاصة ذلك الدكتور (.......)
الذي يقيم في مدينة موسكو، والذي تولى شراء معظم هذا النوع من الطائرات نظير عمولاته ..
وعمولات أخرى لبعض سادة السلطة القادمين من أزقة وحواري مدينة الخرطوم، المدينة التي لا تعرف الأسرار ..!!
في الثالث من أبريل 2005 م، سقطت الطائرة " اليوشن " 76 ، الروسية الصنع بمنطقة
( التعويضات ) شرق الحاج يوسف، وكانت في طريقها إلى نيالا بغرب السودان، قادمة من إمارة الشارقة( بالإمارات العربية المتحدة ) ، وبلغ عدد ضحاياها (7) بينهم سوداني، بل وقبل الكشف عن سقوطها المفاجئ، إذا بطائرة روسية أخرى من طراز " أنتينوف " 24 تسقط بقلب العاصمة داخل حظيرة مطارالخرطوم الدولي وراح ضحيتها (5) مواطنين . ولولا متابعة ويقظة رجال الدفاع المدني لاحترق كل ركابها البالغ عددهم (34).. وقبل الحادثتين أعلاه وقعت حوادث طيران أخرى بطلتها ركاب الطائرة البالغ( الأنتينوف ) - في معظمها - فهناك الطائرة التي تحطمت بالشقلة بمنطقة ( الحاج يوسف ).. وأخرى بالأبيض بغرب السودان .. وحادثة بمطار ( واو ) ثم الطائرة 02 / 30 التي هوت بمنطقة جبل أولياء ,,وغيرها .. ( الرأي العام .. عدد 7 يونيو 2005 م ).الطائرات من هذا النوع تأتي للسودان بعد أن تكون قد استهلكت عدد ساعات طيرانها ببلدانها . والطريف أن أحد المختصين يقول أنها طائرات second hand أو third hand وتكون غالباً مركونة بحظائر الطائرات الخردة . وعلل كثرة السقوط هي :
1 عدم كفاءة الطيارين.
2 عدم كفاءة قسم الصيانة.
3 عدم صلاحية الطائرات ..
وكلها شبهات فساد . يدفع المواطنون ثمن ذلك من أرواحهم . ولم نسمع حتى الآن نتيجة أي تحقيق في هذه الحوادث أو محاسبة أحد .
أما حادثة سقوط طائرة ( فاشودة ) في حوالي 1992 م، والتي كانت تقل وفداً حكومياً آنذاك، بما يعرف (إنقاذياً) بوفد السلام .. وحادثة سقوط طائرة اللواء ( الزبير محمد صالح ) ، نائب رئيس الجمهورية والوفد المرافق له في نهر السوباط .. ونجاة البعض منهم وعلى رأسهم اللواء ( الطيب إبراهيم " سيخة ") ، مستشار الأمن .. وسقوط طائرة العقيد ( إبراهيم شمس الدين ) والوفد المرافق له بمنطقة البترول في عدارييل .
كل هذا سنحكي عنه بالتفصيل الدقيق في الجزء الثاني من ( عبر الجسر إلى شرق النيل )
لإماطة اللثام عن هذا القناع الذي تتستر به هذه الحكومة .. الإسلامية، وكشف جرائمها وخداعها لهذا الشعب المغلوب على أمره، والذي يتهافت الكثير من الساسة للحاق بركبه لإقتسام الغنائم المغموسة بدم الأبرياء .وسنحتفظ بمفاجأة - غير سارة بالطبع - للسيد وزير داخلية السودان اللواء الركن مهندس ( عبدالرحيم محمد حسين ) ، لأننا نتابع وبدقة هذه الأيام التطورات السياسية، حتى نعرف أين سيكون سيادته،لنلاحقه قضائياً .. ولا نعتقد أن بلد ما سيأويه لأن رائحته أزكمت الأنوف، حتى خارجياً ( في يوم 2005 / 6 / 15 م يلاً تقدم بإستقالته من منصبه كوزير للداخلية بعد صدور بيان النائب العام عن حادثة إنهيار مبنى بجامعة الرباط وهو من صميم مسئولياته، رغم أنه لن يلاحق فيه جنائياً بعد مقتل أحد العمال / تفاصيل أوفى في الجزء الثاني من هذا الكتاب /.
فضل؟ .. لا تعليق لدينا .
أما العدالة الإسلامية في ظل دولتهم الراشدة هذه والعالم يتناوشنا لنقدم مجرمي ( دارفور )
لمحكمة الجزاء الدولية، فأسمعوا سادتي هذه القصة : (( في يوم الأثنين الموافق 6 يونيو 2005 م، عقدت المحكمة الدستورية جلسة للمداولة في بعض القضايا برئاسة القاضي ( جلال علي لطفي ). وعند المداولة لأحد القضايا، قال سيادته أن هذه القضية عُرِضت عليه سابقاً إبان توليه رئاسة القضاء السوداني وقدحكم فيها أحد زملاءه القاضي (.....) – ( هو زميله والرجل الثالث معه بالمحكمة الدستورية ) –
ويبدو أنه كان ً مرتشيا ولهذا كان حكمه خاطئاً ..!! إنفعل زميله وصرخ فيه قائلاً : " إنك أكبر مرتشي في السودان "!!.. وقام من مقعده ليضربه ( وهما تجاوز عمريهما 70 عاماُ ).. وقام بقية أعضاء المحكمة الدستورية المؤقرة بفض الأشتباك بين رئيسهم .. وزميلهم ..
أيضاً لا تعليق ..
الصحف هذه الايام حافلة بمقابلات و لقاءات مع شخصيات لعبت أدوارا فى الحياة السياسية السودانية. نجد فى معظم تلك اللقاءات وجهات نظر تؤرخ لأحداث أو تبرر لوقائع فى التاريخ القريب و البعيد يدور حولها كثير من الجدل و اختلاف وجهات النظر و ذلك لأسباب متعددة. هذا النوع من المقابلات فى العادة يتم مع فئات شاركت مع الانقاذ فى بداية حكمها و لعبت دورا فى تمكينها من السلطة، بعض من هذه الفئات لا زال يحتل مركزا مرموقا فى أجهزتها و البعض الآخر قد ازيح منها بعد ان أستنفد كل ما لديه.

المتابع يلاحظ دون عناء، أن النوعين يعدو لاهثا، متسرعا و مرتبكا لكتابة التاريخ من الوجهة التى تعطى مصداقية لافعاله أو تبررها أو تنفى وقائع بعينها. بالطبع و هم يقومون بذلك لا يهمهم كثيرا الكذب ، تزوير الحقائق أو حجبها كليا. كثيرون من هؤلاء يعلمون أن كتابة رأى، تدويره و تكراره فى بلد يسيطر عليه اعلامهم، و فى بلد تضمر فيه وسائل اعلام المعارضين لهم، يمكن على المدى الطويل تصديقه أو على الاقل بذر الشك و البلبلة فى الرأى المخالف لهم. داخل هذا الاطا ر يمكن تصنيف حديث صلاح كرار الذى نشر فى الصحف مؤخرا.

كان فى الامكان اشاحة النظر و عدم الالتفات الى حديثه هذا، كما فعلنا مرارا مع أحاديث مشابهة له فى القول و الفعل، و لكن لأن المسألة التى تطرق مهمة آثرنا التصدى لها. أولا، ما أدلى به يمس جوهر العدالة و القانون و مصداقيتهما، ثانيا يتعلق بعنف الانقاذ المنفلت الذى مارسته و لا زالت تمارسه تجاه الشعب السودانى، و اخيرا لأن ذلك الحدث ترك خدوشا فى المجتمع السودانى و جرحا غائرا على الأسر التى نكبت به من الصعوبة شفائه.

صلاح كرار عضو مجلس قيادة الثورة السابق للانقاذ، رئيس لجنتها الاقتصادية فى بداية حكمها، أدلى لصحيفة آخر لحظة العدد 316 بحديث قال فيه ان لا صلة باعدام مجدى محجوب محمد أحمد بتهمة حيازته لعملة أجنبية ( دولارات )، كما أقر فى حديثه بخطأ ذلك الحكم باعتبار أن التهمة لا ترقى لدرجة الاعدام. قال أنه يخشى على الانقاذ من الظلم و الفساد الذى استشرى، و أضاف انه يقوم بكتابة مذكرات سوف تنشر بعد مماته.

مع اهمال ما قاله عن فساد الانقاذ- لاننى لست بصدد مناقشته فى هذا الحيز- انقل مقتطفات من حديثه ذلك- يقول محاولا تبرئة نفسه من اعدام مجدى (أسألوا جلال علي لطفى رئيس القضاء وقتها ) - ( وقتها كنت فى دولة الامارات العربية لمتابعة بعض الشئون الرسمية، و مكثت هنالك لأكثر من اسبوعين و علمت باعدام مجدى من أحد أقربائه اللذى كان يعمل كابتن بحرى )- (أننى لا يد لى فيما حدث)- (الشخص الذى يجب أن يسأل هو جلال على لطفى ، أسألوه قبل فوات الاوان فهو لا زال على قيد الحياة)

ابتداءا يلاحظ القارئ ثلاث أشياء تطل ساخرة من ذلك الحديث و هى:

• التهافت لنفى اشتراكه فى الحدث.

• الهلع الظاهر من المحاسبة و حكم التاريخ.

• التنصل المزرى و المخجل و محاولة القاء المسئولية على الغير.

فى تقديرى ان اعدام عدد من الافراد ( مجدى، جرحس،و شخص آخر سقط من الذاكرة) هى واحدة من الجرائم البشعة الكثيرة التى ارتكبها نظام الانقاذ، و هى بشعة :

• لانها تمت بقصد و ترصد مستخدمة فى ذلك – زيفا – تطبيق القانون ، و هى كانت بفعلتها تهدف الى ارهاب الشعب السودانى و من ثم الرأسمالية الوطنية لابعادها عن السوق ليخلو لهم ، و قد نجح هذا المخطط لاحقا.

• الفعل لا يتناسب و العقوبة ، فحيازة عملة لا تستوجب الاعدام.

• نفس هذه السلطة التى قامت باعدام أشخاص لحيازتهم عملة خارج الأطر القانونية، عادت بعد عدة أشهر لتسمح بتداول العملة الاجنبية بل لتتاجر بها !!

• ذلك الحكم المتعسف ترك آثاره على المجتمع و على الأسر التى نكبت فى أبنائها.

• هو حكم يستحيل جبر ضرره لأنه لا يمكن احياء من أعدموا، و هى الحجة القوية التى يستند عليها دعاة الغاء عقوبة الاعدام.

نأتى بعد ذلك الى حديث عضو مجلس قيادة الثورة السابق ، و رئيس لجنتها الاقتصادية. يقول أن لا صلة له باعدام مجدى و هو قول يجافى المنطق السليم للاشياء و من ثم الوقائع الثابتة.

• كان هو رئيس اللجنة الاقتصادية التى بدأت فى ترويع خصومها السياسيين، و قد كانت هى المعادل لجهاز الامن فى ذلك الوقت. مجدى و الاخرين حوكموا بتهمة اقيصادية فكيف ينفى رئيس اللجنة علمه بالامر و الكل يعرف انه لا يمكن فتح بلاغ دون علم و موافقة تلك اللجنة؟ كما أن وجوده خارج السودان لا يعنى نفى علمه أو مشاركته، وهو بذلك لا ينهض دليلا على براءته.

• يقول أن اعدام مجدى كان خاطئا فمتى توصل لتلك الحقيقة البديهية؟! و لما ظل صامتا طوال هذه السنوات؟! أم حلاوة السلطة و المقعد المريح يحجبان الحقيقة!!

• يقول اسالوا جلال على لطفى ، فلماذا لم يسعى الى مساءلته و هو عضو مجلس قيادة الثورة؟!

• يقول أن هنالك مذكرات ينوى كتابتها حول الحدث و سوف تنشر بعد مماته! ذلك يعنى الامعان فى حجب الحقيقة و الخوف من المساءلة لانه يعلم تمام العلم أنه لا يمكن مساءلة "ميت!"

رئيس اللجنة الاقتصادية السابق هو نموذج لشخصيات كثيرة فى هذا النظام أياديهم ملوثة بدماء الابرياء، و هو نموذج يوجد فى كل الأنظمة الديكتاتورية. هذا النوع من البشر يرتكب كل ما يخالف القانون، العرف و الوجدان السليم، ثم يأتى لاحقا ليدعى النزاهة و البراءة بل النصح و الارشاد و الدفاع عن الحقيقة!!

اٍن قيام هذا النظام باعدام أشخاص لحيازتهم "حفنة" من الدولارات ، لهى من الجرائم التى لا تنسى و لا تغتفر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البروفيسور احمد التجاني صالح اميرا عاما للهوسا بالسودان

جودة مياهـ الشرب - كوستي نموذجا

وزارة العمل و الموارد البشرية السودانية